فشل في الغناء، وعمل في البناء، ثم غنى وذاع صيته، ودرس الموسيقى واكتشف موهبته، فجدد الموسيقى العربية، وغنى للحمالين والبناءين، ربط السياسة بالموسيقى، لحّن النشيد الوطني، ومات مسموماً، صنع كل هذه الأمجاد ومات ولم يتجاوز عمره ال31 سنة. هو السيد درويش البحر، السكندري مواليد حي كوم الدكة، أحب سيد درويش الغناء منذ الصغر، والتحق بالمعهد الديني بالإسكندرية، وغنى بمقاهيها. ترعرع على حب أغاني وألحان الشيخ سلامة حجازي والشيخ حسن الأزهري، عمل مع فرق موسيقية صغيرة، لكن أحداً لم يقتنع بموهبته، اعتبر "درويش" أنه فشل بالغناء واستسلم لأمره الواقع، حيث كان قد تزوج في عمر السابعة عشر وأصبح مسئول عن أسرة، فلم يرَ بداً من العمل لكسب قوته وقوت أسرته. اشتغل سيد درويش بنّاءً، ولكن الموهبة بالطبع تغلب على الظروف وتطغى على الإحباط، فصار يغني لزملائه البنائين. إلى أن اكتشفه بالصدفة أمين وسليم عطا الله أشهر المشتغلين بالفن آنذاك. سافر معهم سيد درويش إلى الشام، تعلم أصول الموسيقى واحترفها ثم بدأ بالتلحين، وما ان عاد إلى مصر وانتقل إلى القاهرة حتى ذاع صيته واشتهر. لم يكن سيد درويش يهوى الغناء للمحبين، بل كان يرغب في دمج فنه بالحياة العامة، فصار يغني للعمال ويلحن كلمات أغانيهم، حتى طغت الظروف السياسية على كل شيء في البلد، فصارت ألحانه السياسية واحد من أهم محركات الشارع السياسي في مصر، حتى تشعر كأنه واحد من الزعماء السياسيين وقادة ثورة 1919 شأنه شأن سعد باشا زغلول، ومصطفى كامل. لسيد درويش العديد من المواقف السياسية المشهورة، وألحان وأغنيات ارتبطت بالأحداث السياسية، بعضها مضحك وبعضها مبكي، وذلك إن دل على شيء إنما يدل على صدق الحالة وواقعية التجسيد.
قصة النشيد الوطني.. عندما خطب الزعيم المصري مصطفى كامل "بلادي بلادي، لكِ حبي وفؤادي، لكِ حياتي ووجودي، لكِ دمي، لكِ عقلي ولساني، لكِ لُبي وجناني، فأنتِ أنتِ الحياة، ولا حياة إلا بكِ يا مصر".. استلهم الشاعر يونس القاضي من خطبته كلمات النشيد الوطني المصري، الذي لا يزال نشيد بلادنا الوطني حتى الآن، وقام بتلحينه سيد درويش. وعندما أصدر الإنجليز قراراً بمشاركة المصريين في الحرب تحت لواء الجيش الإنجليزي، شعر سيد درويش بما شعر به كل المصريين، من ذل وانكسار وغصة في القلب، حيث صاروا مجبرين على الدفاع عن لواء الجيش الذي يحتل بلادهم. فلحن أغنية "يا عزيز عيني" بعد أن عدّل يونس القاضي في القصيدة الأصلية. "أهو ده اللي صار" واحدة من أشهر أغانيه التي ما زالت باقية إلى اليوم ونحفظها جميعاً عن ظهر قلب، ألفها الشاعر محمد يونس القاضي، بعد أن اتهمه وكيل وزارة الداخلية بأنه يؤلف "كلام فارغ" رغم أنه عاجز عن فعل أي شيء يخرج مصر من أزمتها الاقتصادية، فكتب كلمات الأغنية " تلوم عليا إزاي ازاي يا سيدنا، وخير بلادنا ماهوش في إيدنا.. قولي عن أشياء تفيدنا، وبعدها ابقى لوم عليا".. ولحنها سيد درويش بمنتهى الإبداع والعبقرية التي تمثل الحالة. يا بلح زغلول.. ما زال يغني المصريون "يا بلح زغلول" عندما يحاولون استفزاز شخص ما، رغم أنهم لا يعلمون القصة الأصلية لهذه الأغنية، وكأنها أضحت شئ مرتبط بالجينات المصرية. فما إن تم نفي الزعيم سعد زغلول، ومنع الإنجليز ذكر اسمه تصريحاً أو تلميحاً بعد مطالبة المصريين بعودته، حتى ألف بديع خيري وسيد درويش أغنية "ازرع بلدي، عليك يا وعدي، يا بخت سعدي، زغلول يا بلح" نكاية في الإنجليز. وسرعان ما فهم المصريون الإسقاط، وصاروا يتغنون بها ليلاً ونهاراً. بعد انتهاء الحرب العالمية ظهرت فتوى تبيح أكل لحوم الخيل، بسبب ارتفاع أسعار اللحوم، وكانت أسعار لحوم الخيل منخفضة جداً مقارنة بأنواع اللحوم الأخرى، مما أدى إلى انتشار أكل لحوم الخيل، ولحن سيد درويش أغنية "يا شيخ قفاعة" بعد أن ألفها بديع خيري، "بعد أكل التسقية، والسَلَطة والطعمية، اللي بتهد الحيل، نرقع لنا أوقتين تلاتة، من لحم الخيل، ومادام الضاني غالي، وكذلك العجّالي، مش لازم ندقق، حصاناً أم حمارًا، أم بغلاً موش راح نعتق". أُغلِقَت بارات الإسكندرية بسبب الحرب العالمية الأولى، التي كان يقطن بها الكثير من اليونانيين آنذاك، واختلطت لغتهم بلغة سكان الإسكندرية بعض الشيء، فقد أثروا وتأثروا، وكان أكثرهم يعملون بالبارات، لذلك كان غلقها بمثابة كارثة حلت عليهم فلم يعد لهم مصدر رزق، وكعادة سيد درويش ودمجه للأحوال السياسية والاجتماعية بالموسيقى، لحن كلمات بديع خيري الغريبة، كلمات مصرية بلهجة يونانية بلحن غريب أيضاً هو لحن البوهيجية الأروام.. "مخسوبكو انداس، صبح محتاس، مسختوا بابوتسي يا ناس، مفيس فلوس، بقيتو منخوس، فقرتو خلاص، نستغلوا في ايه، يا افندي يابيه، مادام البخت موريه، مافيس تهييص، مافيس قميص، فينيتو خلاص". وكما كان للمرأة المصرية دور في ثورة 1919، كان لها حظاً من ألحان سيد درويش، فقد اختص نساء مصر بلحن أغنية "ده وقتك ده يومك"، دعا فيها المرأة المصرية للتصويت على دستور 1923 "دة وقتك، دة يومك، يا بنت اليوم، قومي اصحي من نومك بزياداكي النوم، وطالبي بحقوقك واخلصي من اللوم، ليه مانكونشي زي الغربية". مات سيد درويش عشية عودة سعد باشا زغلول من المنفى، الذي كان ينتظر عودته بفارغ الصبر. بكي الزعيم سعد زغلول عندما علم نبأ وفاته فور رجوعه إلى مصر. لكن ما زالت هناك شكوك تدور حول موت سيد درويش في هذا العمر القصير الحافل، فقد قدم كل تلك الألحان والأغنيات، وساهم في تجديد وتطوير الموسيقى العربية بشكل كبير ومهم، ومات وهو ابن ال31 ربيعاً. اتهم البعض الملك فؤاد بقتله بالسم، واتهم البعض الآخر الإنجليز. وظل موته لغز محير حتى اليوم.