للأنساك ثلاثة: التمتع والقِران والإفراد، والذي يجب به الهديُ هو التمتع والقِران. والمتمتع: هو مَن أحرم بالعمرة في أشهر الحج ثم حَلّ منها وأحرم بالحج في عامِه، فلو أحرم بالعمرة قبل دخول شهر شوال، وبقي في مكة ثم حج في عامه، فلا هدي عليه؛ لأنّه ليس بمتمتع، حيث كان إحرامه بالعمرة قبل دخول أشهر الحج. ولو أحرم بالعمرة بعد دخول شوال، وحج من العام الثاني، فلا هدي عليه أيضًا؛ لأنّ العمرة في عامٍ والحج في عام آخر. ولو أحرم بالعمرة في أشهر الحج، وحل منها ثم رجع إلى بلده وعاد منه مُحرمًا بالحج وحده، لم يكن متمتعًا؛ لأنّه أفرد الحج بسفر مستقل. وأمّا القِران، فهو أن يُحرم بالعمرة والحج معًا، أو يُحرم بالعمرة أولاً ثم يُدخل الحج عليها قبل الشروع في طوافها كما سبق. ولا يجب الهدي على المتمتع والقارن إلاّ بشرط أن لا يكونا من حاضري المسجد الحرام، أي: لا يكونا من سكان مكة أو الحرم، فإن كانوا من سكان مكة أو الحرم فلا هدي عليهم؛ لقوله تعالى: {ذَلِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [البقرة: 196]. ويلزم الهدي أهل جُدَّة إذا أحرموا بتمتع أو قِران؛ لأنّهم ليسوا من حاضري المسجد الحرام. ومَن كان مِن سُكان مكة ثم سافر إلى غيرها لطلب علم أو غيره، ثم رجع إليها متمتعًا أو قارنًا، فلا هدي عليه؛ لأنّ العبرة بمحل إقامته ومسكنه وهو مكة. أمّا إذا كان من أهل مكة ولكن انتقل للسكنى في غيرها، ثمّ رجع إليها متمتعًا أو قارنًا، فإنّه يلزمه الهدي؛ لأنّه حينئذٍ ليس من حاضري المسجد الحرام. ومتى عَدِمَ المتمتع والقارن الهدي أو ثمنه بحيث لا يكونُ معه من المال إلاّ ما يحتاجه لنفقته ورجوعه، فإنّه يسقط عنه الهدي، ويلزمه الصوم؛ لقوله تعالى: {فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُوا اللّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [البقرة: 196]. ويجوز أن يصوم الأيّام الثلاثة في أيّام التشريق؛ وهي اليوم الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر من ذي الحجة؛ لقول عائشة وابن عمر رضى الله عنهما: "لم يُرَخّص في أيّام التشريق أن يُصمنَ، إلا لمن لم يجد الهدي". ويجوز أن يصومها قبل ذلك، بعد الإحرام بالعمرة إذا كان يعرف من نفسه أنّه لا يستطيع الهدي؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة". فمن صام الثلاثة في العمرة فقد صامها في الحج، لكن لا يصوم من هذه الأيّام يوم العيد؛ لحديث أبي سعيد رضى الله عنه أنّ النبي صلى الله عليه وسلم "نهى عن صوم يومين: يوم الفطر، ويوم النحر". ويجوز أن يصوم هذه الثلاثة متوالية ومتفرقة، ولكن لا يؤخرها عن أيّام التشريق. وأمّا السبعة الباقية فيصومها إذا رجع إلى أهله إن شاء متوالية، وإن شاء متفرقة؛ لأنّ الله سبحانه أوجبها، ولم يشرط أنّها متتابعة. مسائل تتعلق بالهدي المسألة الأولى: في بيان نوع الهدي. المسألة الثانية: فيما يجبُ أو ينبغي أن يتوافر فيه. المسألة الثالثة: في مكان ذبحه. المسألة الرابعة: في وقت ذبحه. المسألة الخامسة: في كيفية الذبح المشروع. المسألة السادسة: في كيفية توزيعه. فأمّا نوع الهدي، فهو من الإبل أو البقر أو الغنم الضأن والمعز؛ لقوله تعالى: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِين} [الحج: 34]. وبهيمة الأنعام هي الإبل والبقر والغنم. وتجزئ الواحدة من الغنم في الهدي عن شخص واحد. وتُجزئ الواحدة من الإبل أو البقر عن سبعة أشخاص؛ لحديث جابر رضى الله عنه قال: "أَمَرَنا رسول الله أن نشتركَ في الإبل والبقر، كلُّ سبعةٍ منا في بَدَنة". وأمّا ما يجبُ أن يتوافر فيه، فيجب أن يتوافر فيه شيئان: 1- بلوغ السن الواجب وهو خمس سنين في الإبل، وسنتان في البقر، وسنة في المعز، وستة أشهر في الضأن، فما دون ذلك لا يُجزئ؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تذبحوا إلا مُسنة، إلاّ أن يَعسر عليكم فتذبحوا جذعةً من الضأن". 2- السلامة من العيوب الأربعة التي أمر النبي باتقائها، وهي: - العوراء البيِّن عورها، والعمياء أشد فلا تُجزئ. - المريضة البيِّن مرضها بجرب أو غيره. - العرجاء البيِّن ضلعها، والزَّمْنَى التي لا تمشي، ومقطوعة إحدى القوائم أشدُّ. - الهزيلة التي لا مُخَّ فيها؛ لما روى مالك في (الموطأ) عن البراء بن عازب رضى الله عنه، أنّ النبي صلى الله عليه وسلم سُئل: ماذا يُتقى من الضحايا؟ فأشار بيده وقال: "أربعًا". وكان البراء يُشيُر بيده ويقول: "يدي أقصر من يد رسول الله صلى الله عليه وسلم، العرجاء البيِّن ضلعها، والعوراء البيِّن عَورها، والمريضة البيِّن مرضها، والعجفاء التي لا تُنقى". فأمّا العيوب التي دون ذلك؛ كعيب الأذن والقرن فإنّها تُكره، ولا تمنع الإجزاء على القولِ الراجح. وأمّا ما ينبغي أن يتوافر في الهدي، فينبغي أن يتوافر فيه السمن والقوة وكبر الجسم وجمال المنظر، فكلما كان أطيب فهو أحب إلى الله ، وإنّ الله طيب لا يقبل إلا طيبًا. وأمّا مكان ذبح الهدي، ففي مِنًى، ويجوز في مكة وفي بقية الحرَم؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "كل فجاج مكة منحرٌ وطريقٌ". وقال الشافعي رحمه الله: "الحرَم كله منحر؛ حيث نحر منه أجزأه في الحج والعمرة. وعلى هذا فإذا كان ذبحُ الهدي بمكة أَفيد وأنفع للفقراء فإنّه يذبح في مكة، إمّا في يوم العيد، أو في الأيّام الثلاثة بعده. ومَنْ ذبح الهدي خارج حدود الحرم في عرفة أو غيرها من الحِلِّ، لم يُجزِئه على المشهور". وأمّا وقت الذبح، فهو يوم العيد إذا مضى قدر فعل الصلاة بعد ارتفاع الشمس قدرَ رُمحٍ إلى آخرِ أيّام التشريق؛ لأنّ النبي صلى الله عليه وسلم نحر هديه ضحى يوم العيد. ويُروى عنه صلى الله عليه وسلم أنّه قال: "كل أيّام التشريق ذبح". فلا يجوز تقديم ذبح هدي التمتع والقران على يوم العيد؛ لأنّ النبي صلى الله عليه وسلم لم يذبح قبل يوم العيد وقال: "خُذوا عني مناسككم". وكذلك لا يجوز تأخير الذبح عن أيّام التشريق، لخروج ذلك عن أيّام النحر. ويجوز الذبح في هذه الأيّام الأربعة ليلاً ونهارًا، ولكن النهار أفضل. وأمّا كيفية ذبح الهدي، فالسنة نَحرُ الإبل قائمة معقولة يدها اليسرى، فإن لم يتيسر نحرها قائمةً فباركة. والسنة في غير الإبل الذبحُ مُضجعة على جنبها. والفرق بين النحر والذبح، أن النحر في أسفل الرقبة مما يلي الصدر، والذبح في أعلاها مما يلي الرأس. ولا بد في النحر والذبح من إنهار الدم بقطع الودجين؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "ما أنهر الدم وذُكرَ اسم الله عليه، فكلوا ما لم يكن سِنًّا أو ظُفرًا". وإنهارُ الدم يكون بقطع الودَجين؛ وهما العرقان الغليظان المُحيطان بالحُلقوم، وتمام ذلك بقطع الحُلقوم والمريء أيضًا. ولا بد من قول الذابح: "باسم الله" عند الذبح أو النحر، فلا تُؤكل الذبيحة إذا لم يذكر اسم الله عليها؛ لقوله تعالى: {وَلاَ تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَآئِهِمْ لِيُجَدِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} [الأنعام: 121]. ولا تُجزئ عن الهدي حينئذٍ؛ لأنّها ميتةٌ لا يحلُّ أكلها. وأمّا كيفية توزيع الهدي، فقد قال الله تعالى: {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَآئِسَ الْفَقِيرَ} [الحج: 28]، "وأمر النبي صلى الله عليه وسلم في حجته من كل بدنة بقطعة فجُمعت في قدر فطبخت، فأكل من لحمها وشرب من مرقها". فالسنة أن يأكل من هديه ويُطعم منه غيره، ولا يكفي أن يذبح الهدي ويرمي به، بدون أن يتصدق منه وينتفع به؛ لأنّ هذا إضاعةٌ للمال، ولا يحصل به الإطعام الذي أمر الله به، إلاّ أن يكونَ الفقراء حوله فيذبحه ثم يُسلمه لهم، فحينئذٍ يبرأ منه. فعلى الحاجِّ أن يعتني بهديه من جميع هذه النواحي؛ ليكون هديًا مقبولاً مقرِّبًا له إلى الله ، ونافعًا لعباد الله. واعلم أنّ إيجاب الهدي على المتمتع والقارن، أو الصيام عند العدم، ليس غُرمًا على الحاج، ولا تعذيبًا له بلا فائدة، وإنّما هو من تمام النسك وكماله، ومن رحمة الله وإحسانه؛ حيث شرع لعباده ما به كمال عبادتهم وتقرُّبهم إلى ربّهم، وزيادة أجرهم، ورفعةُ درجاتهم، والنفقة فيه مخلوفةٌ، والسعي فيه مشكور، فهو نعمة من الله تعالى يستحق عليها الشكر بذبح الهدي، أو القيام ببدله، ولهذا كان الدم فيه دم شُكران لا دم جُبران، فيأكل منه الحاج ويهدي ويتصدق. وكثيرٌ من النّاس لا تخطُرُ ببالهم هذه الفائدة العظيمة، ولا يحسبون لها حسابًا، فتجدهم يتهربون من وجوب الهدي، ويسعون لإسقاطه بكل وسيلة، حتى إنّ منهم من يأتي بالحج مفردًا من أجل أن لا يجب عليهم الهدي أو الصيام، فيَحرمون أنفسهم أجر التمتع وأجرَ الهدي أو بدلَه، والله المستعان.