«للحب قصة أخيرة»، غادرنا قبل ساعات المخرج والكاتب الكبير وأستاذى فى معهد السينما رأفت الميهى، ولكن القصة لم تنته بعد. كان ولا يزال فيلمه «للحب قصة أخيرة» حالة إبداعية خاصة، الفيلم رشق فى القلب والعقل، وأراه ليس فقط عنوانه الأثير فى عالم الأطياف، ولكنه أحد أهم العناوين للسينما العربية ليس فقط بشهادتى، ولكن من خلال استفتاء مهرجان دبى لأفضل 100 فيلم فى تاريخ السينما العربية احتل هذا الفيلم مركزًا متقدمًا. رأفت الميهى لم يكن فقط عاشقا للسينما، ولكنه كان مجنونا بتلك المعشوقة التى كثيرًا ما غدرت به فى سنواته الأخيرة وأدارت له ظهرها، كان الميهى هو الأنجح ماديا وأدبيا حتى منتصف التسعينيات إلا أنه ومع الأسف منذ نحو عشرين عاما وهو يتلقى الكثير من الضربات القاسية، ولكنه لم يكفّ أبدًا عن الحب والتضحية بكل ما يملك من مشاعر خالصة لا ينتظر أى مقابل ولم يكفر أبدًا بهذا المبدأ «عشق الروح مالوش آخر» وظل على جنونه، كلما خسر ماديا لا يتوقف عن الحلم، يستدين من البنوك لكى ينتج فيلما يعايشه كفكرة، ولكنه لا يدرك أن الجمهور لم يعد على الموجة، يجد فى لحظات أن طموحه يتجاوز رأفت الميهى الكاتب والمخرج إلى الأستاذ «الخواجة» صاحب المدرسة الذى يعلم التلاميذ أصول المهنة، نظر حوله فوجد أن استوديو جلال، الذى يحمل اسم واحد من بناة السينما المصريين وليس فقط الرواد الأوائل، الاستوديو المهجور صار خرابة فقرر أن يحيلها إلى جنة تحمل اسم أكاديمية رأفت الميهى لفنون السينما، ولا ينسى أن يطلق على كل بلاتوه داخل الاستوديو اسم واحد من العمالقة الذين أحبهم وشكلوا فى مشواره علامات فارقة. هذه القطعة الجميلة هى سعاد حسنى وتلك بجوارها لصلاح أبو سيف والثالثة لكمال الشيخ، رهن كل شى فى يديه أو بالأحرى ليس حتى بين يديه من أجل أن يُكمل المشروع وتراكمت الديون وصار مطارَدًا، من البنوك مرددًا قول الشاعر بشارة الخورى «و من الحب ما قتل». من يعرف الميهى يتأكد أنه كان يتنفس الحياة من خلال الأصدقاء، فهو يلتقى الجميع ويناقش ويحتد ويوافق ويغضب يطلق نكتة هنا وقفشة هناك، لكنه أبدًا لم يكره أحدًا حتى من أساؤوا إليه، عندما أقعده المرض اكتشف أن الأصدقاء، بل والتلاميذ لم يستمروا على العهد تناقص حضورهم، فقد هو أيضًا تواصله مع الحياة وهو العاشق لتفاصيل الحياة، أظنه هو الذى قرر الرحيل، هكذا شاهدت صورته الأخيرة عندما زاره عدد من الأصدقاء كانوا يريدون التقاط صورة معه كانوا يدركون أنها الأخيرة إلا أنه كان رافضًا ليس فقط التصوير، ولكن الحياة كلها، ورغم ذلك فقد احتفت الصحافة بتلك الصورة وأظنها سيعاد نشرها فى العديد من المواقع الإخبارية اليوم، ولن يهتم أحد بأن الأستاذ لم يكن راضيًا عنها، ولكن الصحافة سوف تعتبرها صورته الأخيرة، وهذا بمفهوم الصحافة يكفى لإعادة النشر. الميهى الذى عرفته أستاذًا لمادة حرفية السيناريو بمعهد السينما علمنا الدرس الأول وهو أن نتابع كل التفاصيل ونحن نعيش الحياة، كان يستهويه دائما تأمل أولاد البلد، ويختزن الكثير فى ذاكرته الإبداعية، لا توجد شخصية درامية إلا وكانت تعبر عن حالة واقعية أحالها هو عندما أصبح مخرجًا إلى صورة خيالية، فانتازيا، ولكن تواصله بدأ يتلاشى مع الزمن، الميهى كان لا يعيش إلا مع الناس ثم أغلق باب مشاعره ولم يعد يأنس بهم، ربما احتجاجًا لأنه لم يستشعر أبدًا أى إحساس بالوفاء بقدر ما كانت زيارات لتأدية الواجب، كان الميهى يتنفس فى وجود الناس، فهم الأكسجين وأتصوره قرر طواعية أن يتوقف عن التنفس ليكتفى بهذا القدر من الحياة. عندما نحاول تصنيف الميهى إبداعيا نكتشف أنه يظل دائمًا عصيًّا على التسكين تحت قائمة ما، فلقد بدأ الإخراج مع مطلع الثمانينيات «عيون لا تنام» مواكبًا جيلا من الموهوبين، محمد خان وخيرى بشارة وداوود عبد السيد وعاطف الطيب، ورغم ذلك فلا تستطيع عند الحديث عن مخرجى الثمانينيات أن تضغه وأنت مطمئن معهم، إذ يظل هو فى مكانة أخرى. مشواره ككاتب سينمائى من الطراز الأول وعلى المستوى الاحترافى يضعه فى تصنيف مغاير، فهو قد بدأ منذ منتصف الستينيات «جفت الأمطار» إخراج سيد عيسى 1966، وهذا هو اللقاء الاحترافى الأول وكان المخرج الراحل سيد عيسى يحمل الدكتوراه من معهد السينما بموسكو، وتعلم معه الحرفة النظرية لكتابة السيناريو، ولكنه، وعلى حد قوله لى، كان يبحث عما هو أبعد من النظرية والفيلم لم يصل للناس، افتقد النبض والروح الإبداعية والتى اكتشفها بعد ذلك مع كمال الشيخ، الذى منحه الدرس الأهم وهو: كيف تتواصل مع الناس لتصبح على موجة واحدة مع الجمهور؟ وهكذا استمرت المسيرة تحمل قدرًا من الخصوصية وأنجزا معًا «غروب وشروق» و«شىء فى صدرى» «الهارب» و«على من نطلق الرصاص». وقال لى الأستاذ كمال الشيخ إن هناك تحفة سينمائية أخرى أنجزها الميهى معه، ولكنها منسوبة للكاتب الكبير الراحل صالح مرسى وهى «الصعود للهاوية» هذا التسجيل بالصوت والصوة فى لقاء لى مع كمال الشيخ فى برنامج «عمالقة الفن السابع» فى قناة «الأوربت» ولأهمية الواقعة والفيلم أذكره للتاريخ، ولا نستطيع أن نغفل «أين عقلى» لعاطف سالم، «الغرباء» لسعد عرفة، أول فيلم فى مطلع السبعينيات تنبه لخطر التطرف الدينى، الذى يتدثر عنوة بالإسلام. أفلامه ككاتب دخلت التاريخ السينمائى، وعندما توجه للإخراج راهن مبكرًا على سينما تُشبه روحه الساخرة، وتبحث عن الجديد فى كل شىء، وهكذا كان رهانه المبكر على أحمد زكى فى «عيون لا تنام»، واستطاع فى فيلمه الثانى «الأفوكاتو» أن يمنح عادل إمام دورًا لا ينسى، المحامى حسن سبانخ، ليصبح وفى أكثر من دراسة، هو واحد من أهم خمسة أفلام وأفضل أدوار لعادل طوال تاريخه، وعادل لم يكمل المسيرة معه، لأنه، أقصد عادل، كان يبحث عن سينما تنتمى لعادل ولا تنتمى للمخرج، فلقد كان نجاح الفيلم طاغيًا والشخصية التى أداها عادل إمام ظلت عالقة فى أذهان الناس ولا تزال. رأفت الميهى يرى الفيلم بكل تفاصيله التى تعبر مباشرة عنه ويدخل فى الإطار مفتاح أداء الممثل، وهكذا التزم عادل بوجهة نظر الميهى، فكنت ترى الميهى فى حسن سبانخ، ولم يكمل عادل المسيرة مع الميهى الذى قرر أن يواصل المشوار، وهكذا جاءت محطته التالية مع محمود عبد العزيز «السادة الرجال» و«سيداتى آنساتى» و«سمك لبن تمر هندى» ويستمر فى مشوار الفانتازيا، مع ليلى علوى «تفاحة» حتى عندما ذهب للتليفزيون فى تجربته اليتيمة «وكالة عطية» عن رواية خيرى شلبى 2009 لم يتخلّ عن الفانتازيا، فظلت تلازمه، وعندما يقرر مثلا أن يقدم رواية لفتحى غانم «قليل من الحب كثير من العنف» تطل عليك روح الميهى وتقبل الكاتب الكبير فتحى غانم ذلك، لأن الفيلم يساوى المخرج. عندما أشرف على الإنتاج وكان منتجا فنيا بالمعنى الصحيح للكلمة، أى أنه المنتج الذى لديه دراية إبداعية فى كل التفاصيل، كان أيضًا فيلم فانتازيا، وذلك لأول مرة مع المخرج صلاح أبو سيف فى فيلم «البداية» تأليف لينين الرملى. ومر زمن ولم يستطع رأفت أن يستوعب فى كثير من الأحيان أن الفانتازيا تغيرت! المرونة هى التى تمنح الفنان عمرًا فنيا أطول مع الزمن. إنها القدرة على أن لا تستسلم لقالب محدد أو فكر لا يتغير، لأنك إذا لم تتغير وتشعر بإحساس الناس سوف تجد نفسك وقد أصبحت أسيرًا لقضبان أنت صانعها وأنت السجين والسجان فى نفس الوقت. وهذا هو ما عاشه بالضبط المخرج والكاتب رأفت الميهى فى أفلامه الأخيرة، حيث لم يعد لديه الجديد الذى يضيفه ولهذا يبدو فى أفلامه الأخيرة حالة اجترار للماضى الذى كان جميلا ومشرقا. كان الميهى جريئا فى انتقاده، يتجاوز المسموح به، وكان أيضًا ممتعًا، ومع الزمن وتكرار الأفلام احتفظ بالجرأة وفقد المتعة مثل فيلمه «علشان ربنا يحبك» الذى دفع فيه بأربعة من الوجوه الجديدة، ولكنه فقد التواصل مع الجمهور. ويظل أهم إنجاز فى تاريخ الميهى فيلمه الأثير «للحب قصة أخيرة» ولو لم يقدم سوى هذا الفيلم لاستحق مكانة خاصة فى تاريخنا السينمائى كله. قال لى الأستاذ إن «للحب قصة أخيرة» قصة حفرت الكثير فى أعماقه، ولهذا خرج منه كدفقة واحدة وهو يرى أمه تصارع الموت فى لحظاتها الأخيرة فأمسك بروحها وبثها فى فيلمه. أستاذ رأفت: سأراك دومًا فى أفلامك التى أحببتها وحتى فى تلك التى انتقدتها، لأنك كنت صادقًا فى الحياة وعلى الشاشة، ودائمًا أنت رأفت الميهى.