هل سيكون العالم قد صدق وجود المهدى المنتظر؟.. هل سيعود المسيح من جديد؟.. أم إن حال الناس عام 2050 سيكون على ما هو عليه الآن: يعملون ويكدحون ويتعبون ويفرحون ويتألمون.. ثم يرفعون أيديهم إلى السماء ابتهالا.. أو دعوة على من ظلمهم؟ لا أحد يعرف ماذا سيحدث غدا.. لكن مجلة الإيكونوميست البريطانية.. كانت تحلم بالمستحيل.. أصدرت كتابا حمل عنوان: «التغيير العظيم، من عام 2020 حتى عام 2050».. كان الكتاب محاولة طموحة لقراءة طالع المستقبل.. بالعلم.. ولرسم المسار الذى يمكن أن يسير فيه العالم.. بالأرقام والإحصائيات.. كان كتابا.. يحاول أن يأخذ بأسباب الفهم.. أن يتصور شكل العالم القادم بعد ثلاثين عامًا وفقا لقدر العالم الذى يتكشف أمامنا الآن.. معلنا قبل أى شىء.. أن أحدا لا يمكنه قراءة الغيب.. ولا التنبؤ بالأحداث الكبرى التى تغير سير التاريخ.. ومعترفا فى أكثر من موضع، بفشل محاولات كثيرة لاستجلاء المستقبل.. أو رسم خط سيره. من السياسة إلى السكان.. ومن التكنولوجيا إلى الفن.. لم يترك كتاب الإيكونوميست مجالا إلا وحاول تغطيته.. على أن أكثر فصوله إثارة للجدل كان الفصل الذى يدور حول مستقبل الأديان فى العالم.. هل يصبح العالم، بحلول عام 2050، أكثر تدينا.. أم أنه سيزداد بعدا عن الله؟.. هل سيقترب المؤمنون من بعضهم أكثر على اختلاف دياناتهم؟.. أم إن الصراع بين الأديان سيشتد حتى تتفجر بسببه الدماء؟.. والأهم هو : كيف سيكون شكل التدين فى العالم.. غدا؟ كان من المستحيل قراءة الغد من دون فهم اليوم.. والوقوف مثلا أمام حقيقة أن العالم كله يميل ليصبح أكثر تدينا.. سواء فى المسيحية أو فى الإسلام.. تيار الإسلام الأصولى أيضا يزداد قوة فى بلاد كثيرة.. وتنتشر المسيحية لتكتسب اتباعا جددا فى إفريقيا وأمريكا اللاتينية.. لكنها تخسر فى المقابل اتباعها فى اوروبا.. أى أن الدول الغنية تميل إلى أن تتخلى أكثر فأكثر عن الدين الذى يزداد قوة وانتشارا فى الدول الفقيرة التى تضم عددا أكبر من السكان.. وبالتالى عددا أكبر من المؤمنين. والنتيجة: أن المؤمنين قد يرثون الأرض وما عليها.. ببساطة لأنهم الأكثر عددا. هذا التكاثر فى العدد ليس بسبب زيادة أتباع الدين الذين يعتنقونه إيمانا به فقط.. ولكنه يرجع أيضا إلى أن المؤمنين، من مختلف الديانات، هم الأكثر إنجابا.. وتكاثرا.. فى الوقت الذى يميل فيه العلمانيون إلى تنظيم نسلهم.. وحتى فى إسرائيل، فإن اليهود المتشددين ينجبون ثلاثة اضعاف ما ينجبه غيرهم من الإسرائيليين.. تماما مثل طائفة المورمون المسيحية التى تشجع على العائلات الكبيرة وكثرة الإنجاب.. أو المسلمين الذين يؤمنون بالحديث الشريف: «تناسلوا تكاثروا فإنى مباه بكم يوم القيامة». منطق الكثرة، الذى يشجع على الإنجاب فى الديانات الكبرى، هو ما سيجعل أتباع هذه الديانات هم أصحاب الأغلبية الحقيقية والكاسحة فى السنوات القادمة.. لكن.. هل سيظل العالم أكثر تدينا إلى الأبد؟ احتمال لا.. ما لاحظته الإحصائيات العالمية هو أن التدين يزداد لدى الناس كلما تزايد فقرهم.. ويصل إلى أعلى معدلات له فى الدول التى لم تنتقل إلى مرحلة التقدم الكامل بعد.. لذلك تجد الناس مثلا أكثر تدينا فى إفريقيا وأمريكا اللاتينية بينما يقل هذا التدين فى دول أوروبا.. مما يعنى أنه لو ارتفع مستوى معيشة الفقراء.. وازداد دخلهم على مدى السنوات القادمة.. فستقل رغبتهم فى إنجاب الأطفال.. ويزداد حرصهم على «نوعية» الحياة التى يمكن أن يقدمونها لأطفالهم.. بدلا من «كم» الأطفال الذى يمكن أن يقدموه لدنياهم. هذا هو المنطق الأوروبى الذى يربط بين الثراء، وارتفاع مستوى المعيشة، وبين ضعف التدين من ناحية، وقلة الإنجاب من ناحية أخرى.. لكن المنطق الأمريكى موضوع مختلف. أمريكا هى الدولة التى توقعت الإيكونوميست أن يسير العالم على خطاها فى الدين فى السنوات القادمة، كما سار على خطاها فى السياسة والاقتصاد فى السنوات الماضية.. فأمريكا هى الدولة الوحيدة التى لم يضعف فيها الدين مع ارتفاع مستوى معيشة الناس.. صارت دولة تمزج بين الثروة والتقوى.. لكن شكل الدين، والمتدينين فى أمريكا، يرسم شكلا واضحا لتفكير وسلوك وربما مستقبل المتدينين فى العالم من حولهم. وكانت تلك هى بداية الجزء الأعمق.. والأكثر جدلا فى كتاب الإيكونوميست، عندما حاولت أن تفهم المعنى الحقيقى الموجود حاليا للتدين.. والدين. ما فعلته أوروبا، هو أنها هجرت الدين تماما.. فصلته بعنف عن الدولة، ووضعته جانبا.. أما أمريكا، فتعاملت مع الدين بطريقة مختلفة.. لم تغلق دور العبادة لكنها وضعت الدين فى خدمة الدنيا.. لم يعد هدف الدين على الطريقة الامريكية هو دخول الجنة، وإنما خلق الجنة على الأرض.. لم يعد يهتم بإرضاء الله بالقدر الذى يهتم به بإرضاء الحاجات الإنسانية.. بحيث يصبح الدين وسيلة يطور بها الإنسان نفسه.. ويرضى عنها.. قبل أن يرضى الله عنها.. وهو اتجاه صار سائدا لدى كثير من أتباع الديانات السماوية فيما بعد. فى العشرينيات من القرن الماضى كان الناس يقولون إنهم يذهبون للصلاة فى دور العبادة من أجل طاعة الله.. واليوم يقولون إنهم يذهبون لأنهم يشعرون بالراحة والطمأنينة فى قلوبهم.. فى الماضى كانت نسبة المتدينين الذين يلعنون أتباع الديانات الأخرى، ويرون أنهم وحدهم على حق وأن غيرهم على ضلال هى النسبة الغالبة.. بينما اليوم، يرى 70% من المتدينين الأمريكان أن هناك أديانًا كثيرة تصل بالإنسان إلى الجنة وليس المسيحية وحدها.. واختلفت «طبيعة» التدين نفسه فى تفاصيل كثيرة. إذا كان الأمر كذلك.. وكان المتدينون يميلون ليصبحوا أكثر مرونة.. فما الذى يجعل التيارات الدينية المتشددة هى الأعلى صوتا فى العالم كله.. من اليمين المتطرف المؤثر فى قرارات الإدارة الأمريكية.. وحتى التيارات السلفية التى تؤثر فى نتائج الانتخابات فى مصر؟.. هل ما نراه الآن يعنى أن التشدد الدينى سيكون هو السمة الغالبة على العالم فى 2050؟.. إجابة الإيكونوميست عن هذا السؤال إجابة غير متوقعة.. فهى ترى أن القوة التى يظهر بها المتشددون الدينيون حاليا، هى مجرد قوة ظاهرية.. بلا عمق حقيقى.. إن الواقع هو أن التشدد الدينى يأخذ أكبر من حجمه.. ويبالغ كثيرون فى قوته بسبب الاهتمام الزائد الذى تظهره وسائل الإعلام والصحف بأصحاب هذا التيار.. رغم أن السبب الرئيسى لاهتمام وسائل الإعلام وتركيزها على آراء أصحاب التيارت الدينية المتشددة، هو غرابة هذه الآراء.. واختلافها الشديد عما يشعر به عامة المتدينين.. أن الحدة التى يظهر بها المتشددون، ويتحدثون بها.. والعنف الذى يروجون به لأفكارهم.. والإصرار على فرض رؤيتهم ورغباتهم.. كلها أمور لا تعبر عن القوة وإنما عن الضعف.. فالضعيف وحده هو من يصرخ.. والخاسر هو الذى يحتج غضبا وغيظا على خسارته.. رؤية الإيكونوميست تفترض أن القوة الحالية التى يظهر بها تيار الإسلام المتشدد فى مصر تعنى اقتراب نهايته.. «حلاوة روح».. كما نقول بالعامية المصرية.. مصيره أقرب إلى مصير المتشددين الدينيين فى أمريكا الذين لم يربحوا اى معركة اجتماعية على الأرض فى السنوات الأخيرة.. وصار الناس ينظرون إلى الدين على أنه علاقة بين العبد وربه أكثر من كونه وسيلة لتنظيم سياسات وشئون الدولة.. وهى رؤية قد تريح البعض.. وقد تغضب البعض الآخر.. لكن لديها ما تستند إليه فى كل الحالات. إن تراجع التشدد الدينى فى المستقبل، لا يعنى تراجع التدين بأى حال من الأحوال.. فالتدين يستمر لأسباب كثيرة، حتى لو ارتفع المستوى المادى للناس.. وصارت البلاد العربية فى نفس تقدم ورفاهية أوروبا.. إن الفقر ليس هو العامل الوحيد الذى يدفع الناس للاحتماء بالناس.. هناك عامل آخر لا يقل عنه أهمية.. هو عامل الخوف. أن الخوف.. والقلق من المستقبل.. مما يمكن أن يصيب الإنسان اليوم أو غدا.. أمر لا يفرق بين غنى وفقير.. ولا بين مسلم ومسيحى.. بالأرقام، وجدت الإيكونوميست أن أحد أسباب انتشار، واستمرار التدين فى أمريكا على الرغم من كل الثروات التى تموج بها، هو أن الرعاية الصحية فيها لاتصل إلى المستوى الذى تتمتع به أوروبا.. ليس فيها نظام تأمين صحى جيد.. ومن يخسر وظيفته فى أمريكا فكأنه خسر كل شىء.. العدالة الاجتماعية وحسن توزيع الثروات ظاهرة أكثر مما ينبغى..بالتالى فالامريكى غير مطمئن لا على رزقه ولا على صحته ولا على أمنه ولا على مستقبله.. وهى ظروف نعانى أسوأ منها كثيرا فى مصر.. وتدفع الناس دائما إلى اللجوء لرحمة السماء.. هربا من ظلم الأرض. لو ازداد عامل الخوف قوة فى المستقبل.. فتستزداد قوة التدين معه.. لو أن معدلات الجريمة ظلت على تزايدها.. وصار الناس يسيرون غير آمنين على مستقبلهم وأرواحهم فى الشوارع.. فسيحتمون بجدران المساجد والكنائس.. و يزدادون تمسكا بدينهم طلبا لستر الله عليهم.. لو ازدادت البلاد ثراء من دون أن تزداد أمنا.. فستصبح أمامنا أمريكا أخرى.. خائفة وثرية ومتدينة.. وليس مثل دول أوروبا.. متقدمة.. آمنة.. تقل نسبة المتدينين فيها إلا مع موجات المهاجرين التى تأتى من الدول الأكثر فقرا.. حاملة تدينها فى قلوبها.. وأطفالها فى أرحامها.. ليخرجوا للدنيا أحيانا على شاكلة آبائهم.. أو أقل تدينا، كما يفرض عليهم المجتمع الذى يعيشون فيه. كانت كلها تنبؤات تحاول أن ترسم مستقبل ما لا يمكن فهم حاضره.. فلا أحد يمكنه أن يفهم علاقة أى عبد بربه.. ولا أحد يمكنه أن يتوقع ما الذى يمكن أن يحدث فيدفع الناس ليزدادوا تمسكا بدينهم.. أو العكس.. والأهم.. أنه على الرغم من مرور كتاب الإيكونوميست عابرا على الموضوع.. فإن أحدا بالفعل، لا يمكنه أن يضمن ألا تقوم القيامة غدا.. أو اليوم