ربما تعتقد أن اللعب قرين اللهو الفارغ، وعكس الجدية والالتزام، وأن الألعاب ما هى إلا وسائل لتمضية وقت الفراغ وتضييع الطاقة فى جهد لا معنى له ولا قيمة. وربما تعتقد أن الإنسان حين يلعب فهو يخرج من شخصيته ويعود طفلا قاصر العقل والنمو.
ولكن العلم والعلماء الذين يعكفون على دراسة الظواهر والمظاهر المختلفة يؤكدون أن اللعب قد يكون أكثر أنواع التعبير صدقا عن الأفراد والمجتمعات، أو كما قال الشاعر الألمانى شيلر منذ ما يزيد على قرن ونصف القرن من الزمان فإن "الإنسان لا يكون إنسانا إلا عندما يلعب". أو كما يقول فيلسوف لا أعرف اسمه: "الإنسان حيوان يلعب"!
الجديد فى دراسات اللعب وأنواعه هو دراسة المجتمعات والشعوب وفقا للألعاب التى يبتكرونها ويمارسونها بكثرة، والبحث عن العلاقة بين الألعاب المختلفة وتأثيرها على الطريقة التى تفكر، وتنتج، وتحارب بها هذه المجتمعات.
فى كتاب جديد بعنوان "لماذا يلعب الغرب الشطرنج ويلعب الشرق لعبة "جو"، أو كيف تغير الألعاب من أسلوب الحروب والسياسة، يرى الباحث بيتر شوتويل أن استراتيجيات الحروب لدى الشعوب المختلفة تستمد أصولها من نوع الألعاب والطريقة التى يعمل بها عقل كل شعب فيما يتعلق باللغة، والرياضيات، والألعاب التى يمارسها.
يقارن المؤلف بين لعبة "جو" التى بدأت كلعبة بسيطة بدائية ثم تطورت خلال الفترة الذهبية من حكم سلالة "هان" فى الصين شكلها الحالى، وبين لعبة الشطرنج عقب انتقالها من العالم الإسلامى إلى أوروبا خلال العصور الوسطى وافتتان الأوروبيين بها وتطويرهم لها بالشكل الذى نعرفه اليوم، ويربط المؤلف بين استراتيجيات الحروب التى طورها الصينيون وبين حبهم للعبة "جو"، واختلافها عن استراتيجيات الحرب الأوروبية التى تأثرت بحب وفهم الأوروبيين للشطرنج!
يرى بعض الباحثين أن النقطة الفاصلة بين اللغات الشرقية والغربية، التى أثرت كثيرا على أسلوب التفكير وكيفية النظر إلى الأشياء هى اكتشاف الأوروبيين لفعل الكينونة to be، أى تجريد الفعل من الزمن. عندما تبحث فى معاجم اللغة العربية مثلا عن فعل ما سوف تجد تصريفاته المختلفة فى الزمن، الماضى والحاضر والمستقبل: فكر، يفكر، سيفكر، ولكن لن تجد كلمة تدل على معنى "أن يفكر المرء" to think، وستضطر إلى الاستعانة باسم الفعل "التفكير" لتقرب المعنى.
يعتبر الباحثون أن هذا التطور كان نقطة فاصلة فى قدرة العقل الغربى على التجريد. وبالمثل يطبق المؤلف الفكرة على لعبتى ال"جو" والشطرنج. "جو" هى أشبه بمزيج مطور من لعبتى "السيجة" والطاولة. تتكون من لوحة يرسم عليها 19 خطا أفقيا و19 خطا رأسيا، وكل لاعب لديه عدد من الأحجار الدائرية، أو "القواشيط" الصغيرة بيضاء أو سوداء. والفكرة هى القدرة على الاحتفاظ بأحجاره واحتلال أكبر مساحة من اللوحة، ومنع الخصم من احتلال المساحات عن طريق محاصرة أحجاره وأسرها. وغالبا ما تنتهى اللعبة بالوصول إلى فشل اللاعبين فى الحصول على مزيد من المساحات أو "قواشيط" الخصم، وعندها يبدأ عد المساحات والأحجار التى تم أسرها والفائز هو صاحب المساحات والقواشيط الأكثر عددا.
الشطرنج- كما يعلم معظمكم- يتكون من قطع متفاوتة القيمة، عسكرى، حصان، فيل، طابية، وزير، والملك الذى لا تقدر قيمته ولا تنتهى اللعبة إلا بحصاره وأسره، كش مات، أو باستسلام الخصم.
القيمة المادية للأحجار فى لعبة الشطرنج نسبية للغاية، والمهم هو قتل الملك، ولذلك يمكن للاعب لا يمتلك سوى عسكرى واحد وملكه أن يهزمان مملكة كاملة للخصم تتكون من كل جيشه!
هذا الفارق الحاسم يعنى شيئين: الأول هو أن الحركات المختلفة لكل حجر وقيمته المتفاوتة يشكلان تنويعات أكبر من الخطط والأفكار، والثانى هو أن كل الأحجار فى الشطرنج تتضافر معا، بل وتضحى بنفسها فى سبيل هدف واحد سام هو التخلص من ملك الخصم، وهو انتصار يغلب المعنوى على المادى والعقل على البدن!
وفى حين يأتى الدهاء والمكر على قمة المهارات التى يجب أن يتمتع بها لاعب ال"جو"، فإن القدرة على الحسابات العميقة والخطط الاستراتيجية بعيدة المدى تأتى على رأس المهارات التى يجب أن يتمتع بها لاعب الشطرنج.
هذه المقارنة بين ال"جو" والشطرنج تشبه مقارنة أخرى أجراها الباحث اللبنانى فؤاد إسحق الخورى بين الطاولة والشطرنج فى كتاب بعنوان "الذهنية العربية: العنف سيد الأحكام"، صادر عن دار نشر "الساقى".
فى هذا الكتاب يقارن فؤاد الخورى بين حب وإجادة العرب للعبة الطاولة، وبين حب وإجادة الغربيين للعبة الشطرنج باعتبار اللعبتين تعبيرا صادقا عن الطريقة التى يعمل بها كل من العقل العربى والغربى.
يرى الخورى أن القواعد التى تتحكم فى تصور العرب الذهنى هى التصور اللاهرمى للكون والمجتمع. الضعف يكمن فى الانفراد أو الاستفراد. القوة تكمن فى الجماعة والتجمع، أو فى الإجماع والاجتماع. وأخيرا الأولية فى التعامل والتفاعل بين البشر تعطى للتكتيك والقدرة على التحرك والمناورة.
يكتب فؤاد إسحق الخورى:
"يتصور العرب الكون وكأنه بنى مسطحة لا هرمية الشكل والتركيب، تماما كحبات المسبحة أو كأسنان المشط- وحدات منفصلة ومتساوية ومستقلة عن بعضها البعض. وفى هذا التصور اللاهرمى المسطح لا تستمد السلطة والسلطان من مناصب وبنى متدرجة التركيب، إنما تستمد من استعمال القوة والهيمنة والقسر بحيث يسيطر الفرد، أو الأمير أو الإمام، على الجماعة والجمهور".
تتجلى هذه الأحكام فى ألعاب التسلية والرياضة، كما تتجلى فى فنون الهندسة المعمارية والرسم وغيرها، حيث يصبح الشخص، الحاكم أو صاحب المنصب، كما يقول الخورى "هو المنصب عينه. فإذا كان هذا صحيحا، وهو صحيح، فلا عجب أن يصبح الاغتيال والتهديد به أسلوبا سياسيا ناجحا. فكم من امبراطورية أو دولة أو حزب أو تنظيم سياسى دمر على اثر اغتيال مؤسسه. التدرج الهرمى عندنا ينحصر فى العلاقة الثنائية بين الزعيم والتابع، بين القائد والمؤيد، بين الشيخ والمريد، بين الإمام والأمة، بين الأمير والشعب"
وتحت عنوان "اللعب والايديولوجيا" يقارن الخورى بين الطاولة والشطرنج، معتبرا أن "الطاولة بشكلها المربع، وهى مفتوحة، ترمز إلى كمال الأرض اللامتناهى. وترمز الخانات السوداء والبيضاء المحفورة فى الخشب إلى الليل والنهار. كما ترمز الجوانب الأربعة التى تصف فى كل منها الخانات الستة إلى الفصول الأربعة، وعدد الخانات الاثنتى عشرة فى كل جانب إلى عدد الأشهر فى السنة، والخانات الستة إلى الأيام الستة التى خلق الله فيها العالم، والأحجار الثلاثون إلى عدد الأيام فى الشهر، والخانات الأربع والعشرون إلى ساعات اليوم الواحد".
هذا التصور "الفلكى" للكون، يجعل تكتيك اللعب نفسه يمثل حركة الكون بما فيها من ديناميكية وتبدل حظوظ وتغير منازل. ويتجلى هذا التصور اللاهرمى للكون والمجتمع فى اعتبار الأحجار الثلاثين كلها متساوية فى القيمة، منفصلة، ومستقلة. وهذا التصور معكوس فى لعبة الشطرنج التى تختلف أحجارها فى القيمة وكيفية التحرك.
فى الشطرنج هناك الملك والملكة (الوزير)، والأسقف (الفيل) والفارس (الحصان) والقلعة والجندى العادى، وكل منها يتحرك بأسلوب معين وبطريقة خاصة.
أما فى الطاولة فكل "القواشيط" متساوية، وقوتها تكمن فى تجمعها وضعفها يكمن فى انفرادها، لأن "القشاط" المنفرد يمكن للخصم التقاطه أو حبسه. وتتطلب استراتيجية اللعب فى الطاولة تحريك "القواشيط" بشكل يضمن عدم استفرادها، لأنها إذا استفردت "تؤكل".
الأمر لا يقتصر على الطاولة، لكن المنهج نفسه موجود فى معظم الألعاب الشعبية الأخرى، مثل "البصرة" فى الكوتشينة، أو "الأسير" التى يقوم فيها كل فريق من اللاعبين بمحاولة أسر شخص من الفريق المنافس، أو "البيل" التى يقوم فيها لاعب من أحد الفريقين بمحاولة لمس أى واحد من أفراد الفريق المنافس والعودة بسرعة إلى موقعه بين فريقه، فإذا نجح "مات" اللاعب الذى يلمسه، وإذا فشل "يموت" هو ويخرج من اللعبة. وقد تذكرت وأنا أقرأ هذا الكلام أسلوب المعارك بين فرق الأولتراس، أو بين شباب "الأولتراس" والداخلية، والتى يعتمدون فيها على تكتيكات مشابهة للعبة "البيل"، حيث يحاول كل فريق الهجوم فجأة بلاعب أو اثنين على الفريق المنافس وخطف واحد منهم، أو على الأقل خطف سلاحه أو العلم الذى يحمله!
"إن غياب البنى الهرمية فى الألعاب، غياب التنظيم المتدرج السلطات والأدوار، يعكس واقعا حضاريا عاما يتكرر هو إياه فى نماذج مسلكية عدة. كما فى العمارة العربية التى تعتمد على الوحدات الصغيرة المتماثلة المتساوية التى تتكرر، على العكس من أسلوب العمارة الأوروبى مثلا الذى يعتمد على أشكال هندسية متنوعة تكون بناء منسجما ومعقد التركيب فى الوقت نفسه.
ولكن ما الذى يعنيه ذلك فى المجتمعات. يرى فؤاد الخورى أن غياب البنى الهرمية فى الألعاب وغياب التنظيم المتدرج السلطات والأدوار، إنما يعكس واقعا حضاريا عاما يتكرر فى كل المجالات: يرى العرب الكون خيما متشابهة التركيب تتناثر أو تتجمع على أرض مسطحة واسعة" ( وهو ما يذكرنا بشكل لعبة ال"جو" والأحجار المتناثرة فوقها)، ولا يرونها أهرامات متدرجة السلطات والمناصب، فالمجتمع البشرى أمة مؤلفة من إخوة يدورون فى فيلك إمام قائد، ولا يرونها دولا تقوم على توزيع السلطات والصلاحيات والمناصب المختصة.
المشكلة أن معيار التفوق فى هذه البيئة ليس الفرد، وليس تكامل المهارات المختلفة للأفراد، ولكن منطق العصبة، أى تجمع عدد من الأفراد تحت لواء واحد عرقى أو طائفى. وغالبا ما تكون الدعوة إلى التماسك الداخلى والوقوف فى الصف الواحد، أو فى الخندق الواحد، إنما تأتى عن طريق تبنى الأصل السلالى، أو العرقى، أو الدينى، أو الطائفى الواحد.
ووفقا لمفهوم المفكر العربى ورائد علم الاجتماع، عبدالرحمن ابن خلدون عن العمران فإن "عصبية القوم وتماسكهم الداخلى وقوتهم تشتد وتقوى فى غياب التنظيمات الهرمية وتنحل فى وجودها. وبمعان أخرى: تكون مجموعة من البشر قوية فى بيئة تتحكم فيها قواعد لعبة الطاولة وضعيفة فى بيئة تسيطر عليها لعبة الشطرنج.