من أجمل الأفلام التى شاهدتها فى مهرجان الخليج السينمائى الذى عقدت دورته الخامسة من 10 إلى 16 أبريل فيلم كويتى قصير بعنوان «فلان» قام بإخراجه اثنان من المواهب المتميزة فى السينما الخليجية، وهما مقداد الكوت ومساعد خالد. مقداد الكوت كان من باكورة أعماله فيلم بعنوان «موز» عرض فى الدورة الثانية من مهرجان الخليج، وحصل على جائزة لجنة التحكيم ورشحه البعض، وأنا منهم، للجائزة الأولى بلا منازع...وقد أثار الفيلم جدلاً فى المهرجان كما تعرض لهجوم رجعى وسلفى شديد فى الكويت لأنه يتعرض لحالة انحراف جنسى غريبة لدى بطله الذى ينجذب جنسيا إلى قطعة من الأرض شهيرة باستخراج البترول! الكوت قدم فى الدورة الثالثة من المهرجان فيلما مثيرا آخر بعنوان «شنب» يدور حول رجل عربى كل مشكلته فى الحياة أنه لا يملك شنبا! وفى العام الماضى قدم فيلما بعنوان «عطسة» مقتبس عن قصة «موت موظف» للروسى أنطون تشيكوف، ولكن فى أجواء الخليج التى تسيطر فيها طبقة صغيرة جدا من أبناء البلد على ملايين من العمالة الوافدة التى يفترسها الخوف والنفاق. مساعد خالد هو ممثل محترف درس التمثيل فى لندن، كما أنه مخرج ومنتج ومونتير على عادة صناع السينما الشباب الذين يصنعون ويمولون أفلامهم بأنفسهم... ينتمى «فلان» لنفس النوعية من الإنتاج المستقل «يدوى الصنع» ويحمل نفس البصمة الساخرة وأسلوب الكوميديا السوداء الذى يهدف إلى كشف آفات وسلبيات المجتمع بخفة دم تخفف من وقع الصدمة بقدر الإمكان. يبدأ الفيلم برجل يجلس فى «الديوانية» – مكان شبيه بالمقهى المصري- يتحدث إلى شخص لا نراه. يتبادلان التحية والسلام والسؤال عن الأحوال، فيستطرد الرجل فى سرد تفاصيل يومه العادى منذ استيقاظه فى الصباح حتى نهاية اليوم، هذه التفاصيل، التى نراها مصورة، تتلخص فى الجلوس فى الديوانية صباحا، وتناول المشروبات والطعام ثم الذهاب للالتقاء ببعض الأصدقاء لتناول الطعام معا، ثم الذهاب إلى مقهى آخر لتدخين النارجيلة وتناول المزيد من الساندوتشات والمثلجات، ثم العودة للمنزل لتناول العشاء ودواء مرض السكر والنوم. وتصل قمة الهزل مع مشهد النهاية حين يتوقف المتحدث ليجيب عن مكالمة تليفونية من صديق آخر، ويسأل المتصل عن الصحة والأحوال فيسترسل فى حكى تفاصيل يومه، الذى هو عبارة عن تكرار ممل ليوم صاحبنا!! العمل الثانى الذى أثار دهشتى هو الفيلم الروائى الطويل «ظل البحر» للمخرج الإماراتى نواف الجناحى. نواف مخرج شاب من رواد السينما الجديدة التى بدأت فى الامارات والخليج منذ نحو عشر سنوات، وله أكثر من تجربة قصيرة متميزة وفيلم روائى طويل بعنوان «الدائرة» عرض فى دورة سابقة من مهرجان الخليج. هنا، فى فيلمه الجديد، يخرج نواف الجناحى من فكرة عزلة الفرد واغترابه التى عالجها فى أفلامه السابقة ليقتحم مع كاتب السيناريو محمد حسن أحمد، العالم الخلفى المختفى وراء بريق المال والاستهلاك والأسواق العملاقة والمبانى التى تناطح السماء، والتى لا ترى عين السائح سواها فى دبى وأبوظبى وغيرها من الإمارات. هنا على أحد السواحل البعيدة يعيش إماراتيون فقراء يكدحون وراء لقمة العيش ويحلمون ببعض الدراهم القليلة لتلبية مطالب صغيرة، مثل شراء عقد فالصو للحبيبة، أو بضعة أسماك لإعداد العشاء. يتتبع الفيلم يوميات مراهقين صديقين، هما «منصور» و«كلثم» ومغامراتيهما العاطفية والصبيانية التى تتطور إلى تجارب مؤلمة تترك بصماتها عليهما، ولكنها تساهم فى نضجهما وعبورهما عتبة البلوغ إلى عالم الكبار. يحطم الفيلم الصور النمطية التى عهدناها عن مجتمع الخليج، خاصة فى الامارات، وينسج لوحة سينمائية شجية من الشخصيات والطبيعة المحيطة والعلاقات الإنسانية المعقدة داخل الأسرة والحى والعالم، ويملك من الشجاعة الكثير جدا ليتحدث عن الفقر والجنس والحوادث الكارثية التى تتسبب فيها تركيبة سكانية غير متجانسة. يتسم الفيلم أيضا بأداء ممثليه الذى يختلف عن الأداء التليفزيونى والمسرحى الصاخب والمبالغ لمعظم الممثلين الخليجيين، ويعود ذلك إلى توجيه المخرج كما يعود إلى اعتماده على هواة أو مبتدئين، وكذلك يتسم بصورته الناعمة وألوانه الدافئة الكثيفة التى تختلف تماما عن صورة الفيديو السطحية واللامعة التى تطغى على معظم الأعمال الخليجية. صحيح أن بصمات الفنانين الأجانب واضحة فى الفيلم، من تطوير السيناريو إلى التصوير والمونتاج وتركيب الصوت، ولكن ما الذى تتوقعه فى بلد لم يدخل مجال السينما سوى من عهد قريب جدا، المهم – فى تصوري- ليس الاعتماد على أجانب، وإنما التعلم واكتساب الخبرة وتخريج أجيال جديدة قادرة على الاعتماد على نفسها. ومن الأفلام الخليجية إلى المسابقة الدولية للأفلام الروائية القصيرة، والتى عادة ما تكون منتقاة بعناية من الأفلام الفائزة والمشاركة فى المهرجانات الدولية الكبرى على مدار العام. الفيلم الفائز بالجائزة الأولى من إيران – والتى تنتمى لدول الخليج أيضا، غير أنها مستبعدة من المسابقة الرسمية للمهرجان رغم حضورها القوى فيه، الفيلم بعنوان « صوت المطر» من إخراج جلال سعيد بناة، وهو عمل بارع فى فنياته السينمائية وشديد الذكاء – على الطريقة الايرانية- فى نقده السياسى، يدور حول رجل يهوى جمع الطيور وحبسها فى أقفاص فى غرفته الصغيرة فوق سطح أحد المبانى، ولا يعكر صفو هوايته سوى صبى مشوه متخلف عقليا، وفى يوم يحبس الرجل داخل غرفته ولا يجد سوى الصبى لينقذه، ولكن الأخير يبدأ فى مساومته وبشكل لا نعلم منه هل هو من دبر كل هذا بذكاء فطرى أم أنه لا يقصد أى شىء من أفعاله. المهم أنه فى النهاية يكون على الرجل أن يفرج عن كل الطيور الحبيسة