"المنشاوي" يترأس اجتماع المجلس الأكاديمي لجامعة أسيوط الأهلية    بروتوكول تعاون بين جامعة بنها وجهاز حماية وتنمية البحيرات والثروة السمكية.. صور    نائبا محافظ مطروح والدقهلية يفتتحان معرض "كنوز مطروح" في نسخته الثانية    السكرتير العام المساعد لمحافظة الجيزة: 19 سوقا لتوفير السلع بأسعار مناسبة    محافظ البحيرة تلتقي ب50 مواطنا في اللقاء الدوري لخدمة المواطنين لتلبية مطالبهم    الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة يؤكدان دعمهما لوحدة اليمن واستقراره السياسي    بعد حادث إطلاق النار.. "CIA": إغلاق بوابة المقر الرئيسي للوكالة القريب من العاصمة واشنطن    إطلاق نار بالقرب من مقر وكالة المخابرات الأمريكية CIA في ولاية فرجينيا    فرنسا تهدد إسرائيل: سنفرض عقوبات ما لم توقف عمليات غزة    القوات الروسية تسيطر على بلدة نوفايا بولتافكا في دونيتسك    وزير الشباب: نعمل لوضع مصر في مكانتها الرياضية السليمة بين شعوب العالم    «إلى النهائي».. الأهلي يفوز على منتدي درب السلطان المغربي في كأس أفريقيا لليد    مواعيد مباريات اليوم الخميس في دوري روشن السعودي والقنوات الناقلة    بعد ارتباطه بالأهلي.. كوتيسا ينضم إلى أيك أثينا اليوناني بصفقة انتقال حر    أحمد سالم: رفض تظلم زيزو لا يعني تعسفًا.. وجماهير الزمالك نموذج في دعم الكيان    السجن 3 سنوات لعاطل ضبط بحوزته حشيش في روض الفرج    استمرار حبس المتهمين بإطلاق أعيرة نارية تجاه مقهي في السلام    المنطقة الأزهرية تعلن ختام امتحانات نهاية العام الدراسي للقراءات بشمال سيناء    وزير السياحة الأسبق: الرئيس يُشرف بنفسه على إخراج مبهر لافتتاح المتحف الكبير    تعرف على قناة عرض مسلسل «مملكة الحرير» ل كريم محمود عبدالعزيز    أسماء جلال تشارك جمهورها احتفالها بعيد ميلادها ال30 (فيديو)    إشادات نقدية للفيلم المصري عائشة لا تستطيع الطيران في نظرة ما بمهرجان كان    وزير الصحة: مصر حريصة على تقديم كل سبل الدعم الصحي للأشقاء السودانيين    «العالمية لتصنيع مهمات الحفر» تضيف تعاقدات جديدة ب215 مليون دولار خلال 2024    القومي للمرأة ينظم لقاء رفيع المستوي بعنوان «النساء يستطعن التغيير»    الأمن يضبط 8 أطنان أسمدة زراعية مجهولة المصدر في المنوفية    أسرار متحف محمد عبد الوهاب محمود عرفات: مقتنيات نادرة تكشف شخصية موسيقار الأجيال    أدعية دخول الامتحان.. أفضل الأدعية لتسهيل الحفظ والفهم    إسرائيل تسحب وفدها من مفاوضات الدوحة    مجلس وزراء الصحة العرب يؤكد دعمه للقطاع الصحي الفلسطيني    وفاة شقيق المستشار عدلى منصور وتشييع الجنازة من مسجد الشرطة بأكتوبر اليوم    كرة يد - إنجاز تاريخي.. سيدات الأهلي إلى نهائي كأس الكؤوس للمرة الأولى    اليوم العالمي للتنوع البيولوجي.. "البيئة" تكشف سبيل إنقاذ الأرض    خبير تربوي: تعديلات قانون التعليم مهمة وتحتاج مزيدًا من المرونة والوضوح    الجوازات السعودية تكشف حقيقة إعفاء مواليد المملكة من رسوم المرافقين لعام 2025    بحوث "مباشر" تحدد القيمة العادلة لسهم "بنيان" عند 7.94 جنيه    ضبط 9 آلاف قطعة شيكولاته ولوليتا مجهولة المصدر بالأقصر    أمين الفتوى: هذا سبب زيادة حدوث الزلازل    الأزهر للفتوى يوضح أحكام المرأة في الحج    خالد الجندي: يوضح حكم الصلاة في المساجد التي تضم أضرحة؟    ماتت تحت الأنقاض.. مصرع طفلة في انهيار منزل بسوهاج    "سائق بوشكاش ووفاة والده".. حكاية أنجي بوستيكوجلو مدرب توتنهام    تأثير الكبد الدهني على القلب- نصائح فعالة للوقاية    الدكتور محمد خليل رئيسًا لفرع التأمين الصحي في كفر الشيخ    عاجل.. غياب عبد الله السعيد عن الزمالك في نهائي كأس مصر يثير الجدل    «الداخلية»: ضبط 46399 مخالفة مرورية متنوعة خلال 24 ساعة    إعلام عبري: إسرائيل تستعد للسيطرة على 75% من أراضي غزة    كامل الوزير: نستهدف وصول صادرات مصر الصناعية إلى 118 مليار دولار خلال 2030    الكشف عن اسم وألقاب صاحب مقبرة Kampp23 بمنطقة العساسيف بالبر الغربي بالأقصر    جامعة بنها الأهلية تنظم اليوم العلمي الأول لكلية الاقتصاد وإدارة الأعمال    «سلوكك مرآتك على الطريق».. حملة توعوية جديدة لمجمع البحوث الإسلامية    الزراعة : تعزيز الاستقرار الوبائي في المحافظات وتحصين أكثر من 4.5 مليون طائر منذ 2025    راتب 28 ألف جنيه شهريًا.. بدء اختبارات المُتقدمين لوظيفة عمال زراعة بالأردن    محافظ القاهرة يُسلّم تأشيرات ل179 حاجًا (تفاصيل)    "صحانا عشان الامتحانات".. زلزال يشعر به سكان البحيرة ويُصيبهم بالذعر    طلاب الصف الأول الثانوي يؤدون اليوم امتحان العلوم المتكاملة بالدقهلية    هبة مجدي بعد تكريمها من السيدة انتصار السيسي: فرحت من قلبي    حكم من يحج وتارك للصلاة.. دار الإفتاء توضح    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



حياتنا.. حج
نشر في الفجر يوم 23 - 09 - 2014

وصية الله لنا ولكم في كل آن وحين تقواه إلى قيام يوم الدين: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} (آل عمران: 102).
معاشر المؤمنين..
{الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ} (البقرة: 197).
الحج معناه: القصد والتوجه إلى معظّم، فمن حجّ البيت معناه قصده وتوجه إليه معظماً له، ونحن نرى الحاج يقصد بيت الله ويخلّف وراءه دنياه، نحن ندرك أن الحج هو التوجه إلى بيت الله الحرام لأداء المناسك، وهذا هو الذي يمثل أنموذجاً للإقبال الكامل التام الخالص على الله جل وعلا، ولعبادته وابتغاء مرضاته، وإرادة وجهه، واستجابة لأمره وتلبية لندائه.
فالجوارح كلها متعلقة: القلب يخفق، واللسان ينطق، والأقدام تسعى، والأيدي ترمي، والجباه تسجد، والعبد مقبل بكله إلى مولاه ومتخفف وتارك وراءه دنياه، فأعظم ما يمثل هذا الحج هو القصد والتوجه والزهد والتخفف، ومن هنا فإننا ينبغي أن ننظر إلى الحج في منظومته العظيمة التي لو تأملنا وتدبرنا فيها لرأينا أنه ينبغي أن تكون حياتنا حج كلها، حياتنا كلها حج نقصد فيها وجه الله، نبتغي فيها مرضاة الله، نتوجه فيها بكليتنا قلباً وقالباً إلى الله، لا تجذبنا الدنيا، لا تقطعنا عن مراد الله، لا تشغلنا عن فرائض الله، لا تكون سبباً أن نعادي أولياء الله أو نوالي أعداء الله، ذلك هو الحج في مقصده الأعظم وفي معناه الأعم الأشمل.
ولذا لننظر إلى الحقائق القرآنية المتعلقة بهذا الجوهر جوهر الإقبال على الله والإخلاص له: {فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذَلِكَ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (الروم: 38)، المفلحون هم من يريدون وجه الله، من يخلصون له، من يتجرد قصدهم عن كل غاية وغرض إلا وجه الله وابتغاء مرضاته سبحانه وتعالى: {لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتَغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً} (النساء: 114)، لا يستحق الأجر بكماله وتمامه إلا إذا كان ذلك ابتغاء وجه الله وإرادة وجهه جل وعلا، ومن هنا نرى الفرق والبون شاسعاً بين أمر فيه طاعة الله يقبل به العبد مخلصاً لله وبين أمر فيه معصية الله وهو معرض فيه عن أمر الله، وهذه المقارنة القرآنية لو تأملنا فيها سنرى أنها تكشف لنا كل ما يتعلق بحياتنا من إخفاق وفشل، أو من نجاح وتقدم، {وَمَا آتَيْتُم مِّن رِّباً لِّيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِندَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُم مِّن زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ} (الروم: 39)، آية عظيمة، الربا نأخذ فيه مالاً زائداً مضاعفاً، إذا أردت ذلك {لِّيَرْبُوَ} فإنه لا يربو عند الله بل يكون وبالاً وخساراً ومحقاً وذنوباً وآثاماً ومن بعد ذلك حساباً وعقاباً وعذاباً، {وَمَا آتَيْتُم مِّن زَكَاةٍ} وهو المال الذي يُخرج ويُنفق فكأنه ينبغي أن يقل به المال، يقول الله جل وعلا إذا كنتم {تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ}، أي: سيتضاعف المال ويُبارك فيه.
أقبل على الله ولا تتعلق بدنياك فسيُفتح لك كل مغلق، ويتيسر لك كل عسير، ويسهل في طريقك كل أمر كما قال المصطفى صلى الله عليه وسلم: "من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له به طريقاً إلى الجنة"، ولو تأملنا النصوص لوجدنا ذلك واضحاً فينبغي أن نزن الأمور بميزان القرآن وأن نفهم الحقائق في دنيانا بمفاهيم الإسلام لئلا نركن إلى الدنيا ولئلا تكون على أعيننا الغشاوة التي فيها اضطراب المفاهيم والتي فيها خطف القلوب والأبصار إلى متاع الدنيا وزينتها وزخرفها، {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلَا شُكُوراً} (الإنسان: 9).
يوم نرقى بقلوبنا.. يوم نسمو بمشاعرنا.. يوم نجاهد أنفسنا لئلا يكون في أي عمل من أعمالنا ذرة قصد ولا وجهة إلى غير الله حينئذ نصل إلى المرتبة العليا، ومن جميل ما ذكر عن سفيان بن عيينة أنه قال: "إن من دعاء المطرف بن عبدالله أنه كان يقول: اللهم إني أستغفرك مما زعمتُ أني أريد به وجهك وقد خالط قلبي منه ما قد علمت"، وكم نزعم ذلك، والحج هو أمثل الصور التي تدرب على ذلك، لو سألت الحاج: لِمَ تركت أهلك؟، لِمَ خلّفت وراءك دارك وبيتك؟ لِمَ قطعت عملك؟ لِمَ أنفقت مالك؟ مالك خلعت ثيابك؟ مالك تصيح بهذا النداء العظيم: لبيك اللهم لبيك، لقال: كل ذلك لوجه الله، وكل ذلك ابتغاء مرضاة الله، وهي صورة ينتصر فيها على نفسه وعلى هواه وعلى حبه لدنياه.
كلٌ يريد أن يمكث مع أهله وأن يبقى في بيته وأن يطلب راحة جسده وأن يكون في متعة ماله، ينخلع من ذلك ليأتي إلى أرض صحراء جرداء لا ظل فيها ولا ماء وليكدح طوافاً وسعياً، وليمضي رمياً وعملاً، ولينفق مالاً عظيماً كدح في سبيل جمعه، إنه القصد والتوجه إلى الله، إنه ابتغاء مرضاة الله، انها إرادة وجه الله، إنها الانطلاقة إلى الآخرة دون أن يكون هناك إعاقة من دنياه، ومن هنا لابد أن ننتبه إلى القرآن العظيم وهو يزيدنا توجيهاً في هذا الشأن العظيم بين الدنيا والآخرة، وتأتينا الآيات تباعاً ونرى فيها لو تأملنا ما يعيدنا إلى جادة الصواب عندما نغرق في الشهوات، عندما ننشغل بالملذات، عندما تقعدنا الدنيا عن الطاعات، يقول الحق جل وعلا: {وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الْأُولَى} (الضحى: 4)، ويقول: {وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} (الأعلى: 17)، ويقول: {وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً} (الإسراء: 21).
رغم أن المقارنة واضحة إلا أن القرآن العظيم يخاطب المؤمنين وهم بشر لهم شهوات وعندهم ركون إلى الدنيا وقد تضعف أنفسهم وتفتر عزائمهم فإذا بالقرآن يبيّن لهم أن لا مقارنة، وأنّ الأمر أبعد من أنْ يكون للدنيا حظٌ في منافسة الآخرة، وحسبنا كذلك قول الصادق المصدوق صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم وقد أوتي جوامع الكلم: "لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربة ماء"، بأبي هو وأمي رسول الله كم في هذا الحديث من عظات، كل الناس يقتتلون ويتحاربون ويختصمون على جناح بعوضة، أين عقولهم؟ أين قلوبهم؟ أين معرفتهم وإيمانهم؟ أين إدراكهم بأن الحياة الدنيا دار ممر وأن الآخرة هي دار المقر؟ ولو كانت تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربة ماء، فكيف يغدق على هؤلاء الكفرة والعصاة؟ لأنها ليست عند الله بذات وزنٍ حتى يحجبها عمن عصاه، لكنه قد يحرم بعض نعيمها أو كثيراً من نعيمها لمن اصطفاه، وحسبنا أن رسولنا صلى الله عليه وسلم كان يمر به الهلالان والثلاثة ولا يوقد في بيته نار، وهو الذي وصف لنا شأنه مع الدنيا فقال: "ما لي وللدنيا، ما أنا إلا كراكب استظل تحت ظل شجرة ثم قام وتركها"، مسافرٌ يقف تحت ظل الشجرة هل ترونه يبني قصراً؟ أو حتى ينصب خيمة!؟، أو حتى يلتمس أي شيء؟، ولو قيل له في ذلك لقال هي لحظات لا تحتاج إلى كل هذا العناء، ولا إلى هذا الإعداد وأنا عنها راحل إلى مقصدي ومرادي، هكذا يمثل النبي صلى الله عليه وسلم بالقول وهكذا يجسد بالفعل في سيرته، فقد صلى مرة وتجوّز في صلاته -أي أسرع- ثم سلّم وانفتل إلى بعض دوره وخرج ورأى علائم الاستفهام على أصحابه فقال لهم: "ذكرتُ شيئاً من تبرٍ –أي من ذهبٍ- فخشيت أن يحبسني فأنفقته في سبيل الله"، وهو القائل: "الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر".
ولابد هنا أن نعتبر ونحن نتحدث عن الحج بأنه أيضاً صورة حقيقية عملية لطبيعة الحياة الدنيا، في الحج ليس هناك عناية بأن نبني الدور أو نعمر القصور ولسنا نأخذ معنا من الثياب إلا على قدر الحاجة، ولا نعتني بكثير من أسباب الراحة، والجواب أنها أيام قلائل، وعنها سيكون كلنا زائل وهذه هي حقيقة الدنيا: {وَاتَّقُواْ يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} (البقرة: 281)، وهنا نعرف الحقيقة على وجهها الصحيح كما يشاهدها المسلم الذي يحج بيت الله فيدرك تماماً أنه في هذه الأيام وفي تلك البقاع المقدسة وفي أدائه لتلك المناسك العظيمة لا يشغل فكره ولا يستغرق وقته ولا يبذل في أمر جهده إلا للطاعة، وأما الدنيا فهو يأخذ منها أقل القليل فإذا به في منى يجهز أحسن تجهيز، لكنه في عرفة يكتفي بالقليل، وفي مزدلفة لا يلتفت إلى شيء إلا على يده يضعها تحت رأسه لينام أو فرشة لأن الوقت أقل، وكلما كان ذلك أقل كلما كانت العناية أدنى وأقل، وهذا أمر واضح لمن يعتبر ويتعظ.
حكمُ المنيَّة في البريَّة جاري ما هذه الدنيا بدار قرارِ
بينا يُرى الانسانُ فيها مخبراً حتى يُرى خبراً من الاخبار
{فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءلُونَ {101} فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ {102} وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ {103} تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ} (المؤمنون: 101-104)، كلنا نقرأ ونؤمن ونوقن بذلك، غير أن تأثيره في حياتنا لغلبة الدنيا علينا يضعف ويكاد أن يغيب ويخفى في بعض الأحيان فيأتي الحج ليسوقنا إلى المقصد الأعظم وهو التوجه إلى الله والتخفف بالنسبة للحاج من دنياه: {يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ} ينبغي لك وأنت مسلم مؤمن أن تدرك الحقائق بأعظم مما يدركها كل إنسان يعرف الحقائق البشرية لكنك تعرف الحقائق الإيمانية: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ} (فاطر: 5)، تأمل وعد الله حق والموت حق ونهاية الدنيا كلها بمن فيها وما فيها حق، ومع ذلك قد تغرنا الدنيا وتفتننا وتنسينا وتلهينا وتشغلنا حتى كأن الواحد ربما حاله يحكي أنه قد غابت عنه هذه الحقائق الإسلامية والمعاني الإيمانية.
ألا إنما الدنيا كأحلام نائمٍ فما خير عيش لا يكون بدائمِ
ولذا جاء التوجيه القرآني للحقيقة وهي أن نهتم بهذا القصد والتوجه إلى الله ونعطيه حقه ونعطي أهله حقه فهذا نداء القرآن لرسول الإسلام عليه الصلاة والسلام يخاطبه مخاطبة واضحة قوية: {وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} (الأنعام: 52)، {وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً} (الكهف: 28)، واليوم اختلت الموازين فنرى من يريد وجه الله عابداً زاهداً يزهد فيه الناس لا يلتفتون إليه ويصدق فيه الصورة المعبرة التي صورها لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: "رب أشعث أغبر مدفوع بالأبواب لا يؤبه له لو أقسم على الله لأبره" ولما مرّ الرجل وعليه هيئة حسنة ويظهر عليه أثر النعمة قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ما تقولون في هذا؟" قالوا: هذا حريٌ إن قال أن يُسمع وإن شفع أن يُشفّع وإن نكح أن يُنكح، ولما مرّ الرجل بهيئة متواضعة لا يُرى عليه أثر النعمة قالوا على عكس ذلك، فقال: "إن هذا خير من ملء الأرض من ذاك"، ينبغي أن ننتبه إلى إرادة وجه الله وإلى المخلصين في طاعة الله والمستمسكين بكتاب الله وسنة رسول الله، هم الذين يُؤثرون هم الذين يُقدمون هم الذين تكون لهم المحبة والولاء وليس عكس ذلك، ولعلنا ندرك هذا في كثير من أحداث السيرة وفي قصة الأعمى ابن أم مكتوم الذي عُوتب فيه النبي صلى الله عليه وسلم دليل وعبرة وآيات كثيرة وحِكَمٌ وعِبرٌ جليلة عظيمة ينبغي ألا ننشغل بها.
ومما أُثِر عن بعض السلف -حتى نرى قيمة القصد إلى الله- في طبقات الحنابلة أن الإمام عبدالغني المقدسي سُجن في بيت المقدس في فلسطين والسجن يجمع أخلاطاً وفيهم بعض اليهود والنصارى، فقام ليلته مخلصاً لربه مصلياً باكياً حتى أصبح، فلما أصبح الصباح قال أولئك النفر من اليهود والنصارى للسجان: أطلق صراحنا فقد أسلمنا، قال: أوَ دعاكم إلى الإسلام؟، قالوا: لا، ولكنه ذكّرنا بيوم القيامة، هذا المعنى العظيم هو جوهر هذا الحج، فلنجعل حياتنا كلها حج بأن نقصد وجه الله وألا تقطعنا عن ذلك الدنيا بمشاغلها.
أسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا وإياكم مقبلين على الله نريد وجهه ولا نبتغي سواه وأن ينيلنا رحمته ورضوانه إنه جل وعلا ولي ذلك والقادر عليه.
الخطبة الثانية:
معاشر المؤمنين..
أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله فإنها أعظم زاد يقدم به العبد على مولاه.
وإن موسم الحج موسم أعظم لهذه التقوى: {لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ} (الحج: 37)، ولعلي هنا أذكّر مرة أخرى بأن نجعل حياتنا حج، لو كانت حياتنا حج لما رأينا حاكماً يبطش برعيته ويقتلهم ويدمر البيوت فوق رؤوسهم، لو كانت حياتنا حج لما رأينا قاضياً يظلم في حكمه ابتغاء دنياه، لو كانت حياتنا حج لما رأينا ابناً يعق أمه وأباه لأنه ينشغل عن برهما بدنياه، لو كانت حياتنا حج لما رأينا زوجاً يتسلط على زوجه بالظلم والقهر بغير حق، ولو كانت حياتنا حج بالمعنى الذي قلناه نقصد في كل أمر وجه الله وتتعلق قلوبنا وجوارحنا بطاعته ومرضاته سبحانه وتعالى ولا تقطعنا الدنيا لما وجدنا ما نجد اليوم في حياتنا من أواصر مقطعة ومن قلوب مليئة بالأضغان والأحقاد والحسد ومن صورٍ كثيرة من الخلاف والنزاع بل والاقتتال وسفك الدماء، لأننا ما قصدنا وجه الله كما ينبغي، ولأننا ما أردنا الله والدار الآخرة على النحو الذي ينبغي أن يكون لكل مؤمن حتى رأينا ما رأينا من هدي النبي صلى الله عليه وسلم ومن عِبره التي علمنا إياها، فمرّ مرة بجدي أسكّ –أي مقطوع الأذن، ميّت- قال: "من يشتري هذا بدرهمين؟"، ما تكلم أحد، "من يشتري هذا بدرهم؟" فقال أحدهم: والله يا رسول الله لو كان حيّا لكان قطع أذنه عيب فيه، قال: "فوالله لهوان الدنيا على الله أهون من هذا على أحدكم"، نحن في حاجة في هذا الموسم الأعظم في الحج الأكبر الذي تتوجه فيه الجموع الغفيرة من أمة الإسلام إلى عظمة هذا البيت الحرام، وإلى إقامة المناسك وشعائر الإسلام، وإلى تمثل نموذجاً للإقبال على الله والتعلق بالآخرة والزهد في الدنيا والتخفف منها أن نعيد في حياتنا كل أمر لنعود إلى الحج، ولنكون حجاجاً ونحن نصلي فنخلص لله ولا ننشغل بالدنيا، لنكون حجاجاً ونحن نعمل فنخلص في عملنا ونتقن ونجيد ولا نكون من أهل الرشاوى ومن أهل التفريط ونحو ذلك، لو كنا حجاجاً لأتقنّا ولأجدنا في أعمال دنيانا وفي عبادات ديننا، حياتنا حج عنوان ينبغي أن نستقبل به حجنا حتى وإن بقينا في بيوتنا ولم ننتقل لأن الحج قصد والقصد يكون بالقلب قبل أن يكون بالبدن، والحج يكون قصد بالنية والجوارح والنفس والروح وبكل الجوارح ولبيك اللهم لبيك يقولها الحاج هناك وتقولها أنت وأنت في مكانك، تلبي الله عز وجل أي تستجيب لندائه الذي كان من إبراهيم الخليل عليه السلام لحج بيته وهو النداء القرآني لكي يكون لك تلبية في كل أمر تؤمر به وفي كل دعوة يدعوك الله عز وجل إليها ويقربك منه ويدلك على طريقه ويدعوك إلى الإخلاص له، ويدعوك إلى أن تستثمر دنياك لآخرتك.
أسأل الله جل وعلا أن يقبل بقلوبنا إليه وأن يذيقنا لذة مناجاته وحلاوة طاعته وأن يجعل طاعته أحب إلينا من الماء البارد على الظمأ، وأن يجعلنا ممن يريدون وجهه والدار الآخرة وأن يجعل أعمالنا خالصة لوجهه الكريم، وألّا يجعل قلوبنا متعلقة مشغولة بالدنيا التي تقطعنا عن الآخرة.
اللهم تولّ أمرنا وارحم ضعفنا واجبر كسرنا واغفر ذنبنا وبلغنا اللهم فيما يرضيك آمالنا.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.