عاجل- التوسع في الطاقة المتجددة.. الحكومة تخصص أراضي بقنا لإنشاء محطة طاقة شمسية بقدرة 1 جيجاوات    إصدار عُملة تذكارية بمُناسبة مُرور 150 عامًا على إنشاء هيئة قضايا الدولة    أرفع أوسمة «الفاو» للرئيس السيسى    اتصال هاتفي بين وزير الخارجية ونظيره السلوفاكي    برنامج علاجي ل أفشة للتعافي من آلام السمانة    عاجل- المركز الإعلامي لمجلس الوزراء ينفي شائعات ضعف كفاءة مشروعات الصرف الصحي بقرى مغاغة بالمنيا    محافظ الجيزة يفتتح مبنى علاج الغسيل الكلوي الجديد بمستشفى أبوالنمرس المركزي    ترامب: قدمت الكثير لإسرائيل وسأظل صديقًا ومدافعًا عن الشعب اليهودي    جامعة الدول العربية تطلق المنتدى العربي الأول للإنذار المبكر والاستعداد للكوارث    إقبال ملحوظ من الناخبين على لجان الحسينية بالشرقية في جولة الإعادة لانتخابات النواب    600 قائد عسكري إسرائيلي لترامب: لا مرحلة ثانية لغزة دون نزع سلاح حماس وإشراك السلطة    الروائى شريف سعيد يتحدث عن "عسل السنيورة" الفائزة بجائزة نجيب محفوظ    طيران الاحتلال يشن غارة جوية بمحيط منطقة السامر في غزة وأنباء أولية عن سقوط شهيد    الصحة: إجراء جراحة ميكروسكوبية دقيقة لطفل 3 سنوات بمستشفى زايد التخصصى    البورصة المصرية تخسر 16.6 مليار جنيه بختام تعاملات الأربعاء 17 ديسمبر 2025    الداخلية تضبط مكبر صوت بحوزة 3 أشخاص يحشدون لناخب فى سيدى سالم    وزراء الري والزراعة والصناعة: تعامل حازم مع أى تعديات على المجارى المائية والطرق    كيف دعم حسن حسني الراحلة نيفين مندور في فيلم «اللي بالي بالك»؟    وزير الأوقاف يكرم المشاركين فى نجاح المسابقة العالمية 32 للقرآن الكريم    ضبط شخص بحوزته عدد من البطاقات الشخصية لناخبين ومبالغ مالي    تضامن المنوفية: تسليم 46 مشروع إنتاجي لتمكين المرأة الريفية    جوائز مالية ضخمة للمنتخبات المشاركة في كأس العالم 2026    إصابة 7 أشخاص إثر انقلاب سيارة سوزوكي بشمال سيناء    تأييد حبس الفنان محمد رمضان عامين بسبب أغنية رقم واحد يا أنصاص    زحام من طوابير الناخبين فى الخليفة والمقطم والأسمرات للتصويت بانتخابات النواب    بوتين يؤكد تطوير القدرات العسكرية ومواصلة العملية فى أوكرانيا    الأمطار وراء تأخر فتح لجنتين بالتل الكبير لمدة 20 دقيقة بالإسماعيلية    إحالة أوراق متهم بقتل شخص فى سوهاج بسبب خلافات ثأرية إلى فضيلة المفتى    الداخلية تضبط 3 أشخاص لتوزيعهم أموال بمحيط لجان المطرية    وزارة الأوقاف تنظم فعاليات واسعة لمناهضة العنف ضد المرأة    قائمة ريال مدريد - غياب فالفيردي وكورتوا في مواجهة تالافيرا    وزير الرياضة يعلن عودة نعمة سعيد من الاعتزال تحضيرا ل أولمبياد لوس أنجلوس    حقيقة انفصال مصطفى أبو سريع عن زوجته بسبب غادة عبدالرازق    مفتي الجمهورية يلتقي نظيره الكازاخستاني على هامش الندوة الدولية الثانية للإفتاء    مكتبة الإسكندرية تشارك في افتتاح ملتقى القاهرة الدولي للخط العربي    الزمالك يكشف موقف آدم كايد من لقاء الزمالك وحرس الحدود    أسوان تكرم 41 سيدة من حافظات القرآن الكريم ضمن حلقات الشيخ شعيب أبو سلامة    18 فبراير 2026 أول أيام شهر رمضان فلكيًا    الأهلي يحسم ملف تجديد عقود 6 لاعبين ويترقب تغييرات في قائمة الأجانب    محافظ القليوبية يكرم البطلة جنة صليح لحصولها على برونزية قذف القرص بدورة الألعاب الأفريقية    المطبخ المصري.. جذور وحكايات وهوية    أوكرانيا تعلن استهداف مصفاة نفطية روسية ومنصة بحر القزوين    أم كلثوم.. حين تتحول قراءة الرمز إلى تقزيم    المصرف المتحد يرعى المسابقة العالمية للقرآن الكريم في نسختها الثانية والثلاثين    تداول 16 ألف طن و797 شاحنة بضائع عامة ومتنوعة بموانئ البحر الأحمر    مع بدء التصويت بانتخابات الاعادة للمرحلة الثانية .. حزب العدل يتقدم ب 7 شكاوي للهيئة الوطنية للانتخابات    مشاهد عائلية لافتة في لجان المطرية بجولة الإعادة لانتخابات النواب    محافظ دمياط يتابع الإقبال على 80 لجنة انتخابية    عاجل- الأرصاد السعودية تحذر: أمطار ورياح شديدة على منطقة حائل    محافظ قنا يوجه بحملات مرورية مكثفة للحد من حوادث الطرق    متحدث وزارة الصحة يقدم نصائح إرشادية للوقاية من الإنفلونزا الموسمية داخل المدارس    إصابة ثلاثة طلاب من جامعة بنها جراء اعتداء بمياه النار في كفر شكر    إعلام الاحتلال: إسرائيل تستعد لمواجهة عسكرية مع حزب الله نهاية العام    الصحة تكشف تفاصيل تجديد بروتوكول مواجهة الطوارئ الطبية لمدة 3 سنوات جديدة    مرونة الإسلام.. وخلافات الصحابة    «كامل أبو علي»: أتمنى فتح صفحة جديدة وعودة العلاقات مع الأهلي    اسعار الخضروات اليوم الاربعاء 17 ديسمبر 2025 فى اسواق المنيا    «عسل السنيورة»... قراءة في تاريخ وروح مصرية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



داوود.. النبوة والملك والقضاء
نشر في الفجر يوم 07 - 07 - 2014

القصة نسيج لحدث يحكي عبرة، ويوصل فكرة وقد حث القرآن عليه قال تعالى (فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ)(الأعراف: 176) وأحسن القصص ما قصه القرآن في كتابه قال تعالى (نحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ) (يوسف: 3) فقصص القرآن حق لا يعتريه الزيغ ولا الكذب قال تعالى (إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ) (آل عمران: 62). ولقد قص علينا القرآن حكاية أمم غابرة يذكرنا بحالهم ومآلهم قال تعالى (كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْراً) (طه: 99) فذكرنا بأحوال قرى آمنت وأخرى عتت عن أمر ربها قال تعالى (تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَائِهَا) (الأعراف: 101) وأردف القرآن بقصص للأنبياء لا غنى للذاكرة عنها فذكرها وأعرض عن أخرى قال تعالى( وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ) وقصص الأنبياء في القرآن عبر وحكم يستنير بها الضال ويسترشد بها الحائر قال تعالى (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) (يوسف: 111) فشأن القصة تثبيت الأفئدة وعظة من حكم الزمان مع الإنسان قال تعالى (وَكُلّاً نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ) (هود: 120). وسوف نعيش في رحاب القرآن نسترشد بقصصه ونتعظ بعبره ونستفيد من أحكامه فننال من الله تعالى السداد والقبول.

روى أبو سعيدٍ الخُدري رضي الله عنه؛ قائلاً: قَرَأ رسول الله، صلَّى الله عليه وسلَّم، وهو على المنبر سورةَ (ص)، فلمَّا بلَغ السجدةَ؛ نَزَل فسجد، وسجَد الناسُ معه، فلمَّا كان يومٌ آخرُ، قرأها، فلمَّا بلَغ السجدةَ تَشَزَّن الناسُ للسجود- تهيأوا-، فقال النبيُّ، صلَّى الله عليه وسلَم: (إنَّما هي تَوبةُ نبيٍّ، ولكنِّي رأيتُكم تَشَزَّنتم للسجود)، فنَزل وسجد، فسجدوا.

وروى عبد الله بن عباس، رضي الله عنهما: أنَّ رسول الله، صلَّى الله عليه وسلَّم، سجَدَ في (ص)، وقال: (سَجَدها داوود توبةً، ونَسجُدُها شكراً).

فما حكاية هذه السَّجدة ؟ وما تعلُّقها بسيِّدنا داوود عليه السلام ؟

نبوة داوود وملكه

يخبرنا القرآن الكريم عن المكانة الرفيعة، التي وهبها الله، سبحانه وتعالى، لسيِّدنا داوود عليه السلام؛ فيقول عزَّ وجلّ :{اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ (17) إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ (18) وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ (19) وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ (20)}، فقد جعله الله، تعالى، نموذجاً يُقتدى به في الصبر على العبادة والطاعة؛ لكثرة إنابته إلى ربِّه سبحانه، وسرعة رجوعه إلى الحقِّ في كلِّ أحواله، وسخر له الجبال والطيورَ تسبِّح معه صباحاً ومساءً، وقوَّى له مُلكَه ورسَّخه، وثبَّته بما مكَّنه من الأسباب وكثرة العَدَد واجتماع العُدَّة، بعدَ أن آتاه النبوَّة والقدرةَ على الفصل في خصومات الناس، فاجتمعت له النبوَّة، والمُلك، والقضاء.

خصومة المحراب

جاء في سورة (ص) عن القصَّة التي أدَّت إلى سجود سيِّدنا داوود عليه السلام توبةً إلى الله، تعالى، جل في علاه، خاطب رسولَنا الكريم صلَّى الله، عليه وسلَّم، قائلاً: {وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ (21) إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لَا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ (22) إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ (23)}.

بداية الحادثة انطلقت من نزاعٍ نشأ بينَ أخوَين متشاركَين، أحدهما غنيٌّ كثيرُ المال واسع الثروة يملك تسعاً وتسعين نعجةً، والآخَر فقيرٌ لا يملك إلَّا نعجةً واحدةً فقط، وقد طلَب الغنيُّ من أخيه الفقير أن يضمَّ نعجتَه الواحدةَ إلى نعاجه الكثيرة ليرعاها، ورَفَض الفقير ذلك، حتَّى اشتدَّ النزاع بينَهما وتطوَّر إلى أن يكون مع كلِّ واحدٍ منهما جماعةٌ تعينه على تنفيذ رأيه، وتطوَّرت الخصومة حتَّى أدَّت إلى وقوع الشِّجار والبغي والعدوان من بعضهم على بعض، فارتأوا أن يذهبوا إلى نبيِّ الله داوود عليه السلام ليفصل بينهم، وجاؤوا إليه فوجدوه معتزلاً للعبادة في محرابه الخاصِّ المحاط بالأسوار والحرَّاس، فاضطرُّوا إلى التسلُّق على تلك الجدران، والتسلُّل خلسةً إلى داخل المحراب.

من البديهي أن نُدركَ هنا، أنَّ النِّزاعَ بينَهم بلغَ منتهاه حدَّ القِتالِ، ولو كان بسيطًا لَما احتاجوا أن يتكلَّفوا عناءَ تسلِّق الجدران واقتحام خَلوةِ سيِّدنا داوود عليه السلام، وبذلك نعلَم سببَ فَزَعه من منظرهم حينَ دخَلوا عليه، إذ لا ريبَ في أنَّهم كانوا مدجَّجين بأسلحتهم، ولهذا بادَروا إلى طَمأنته وإخبارِه بسبب حَملهم السلاح، ألَا وهو النِّزاع والتخاصم، الذي أدَّى بهم إلى القِتال، ثمَّ بيَّنوا له صِدقَ ونَقاء سريرتهم بأنَّهم ما قصَدوه إلَّا لأجل إظهار الحقِّ على يديه ليتَّبعوه، وطالبوه بأن يحكم بينَهم بالإنصاف والاعتدال، وأن يُرشدَهم إلى الطريقة الأمثل في فضِّ هذا النِّزاع، وهو كلام يدلُّ المتأمِّل على رجاحة عقول القوم، واستقامة ضمائرهم، ومتانة تديُّنهم.

وعندما سألهم سيِّدنا داوود عليه السلام عن سبب الخلاف، أخبروه أنَّه بين الأخوَين الحاضرَين معهم، فتكلَّم الأخ الأكبر وأظهَر ضعفَه ومَسكنتَه ومطالبةَ أخيه الاستحواذَ على نعجته الوحيدة، رغمَ الثروة الهائلة، التي منحه الله، تعالى، إياها، ثمَّ زعَم أنَّ أخاه قد عزَّه في الخِطاب، بمعنى أنه غلبَه في الكلام وألحَّ عليه في الطلب حتَّى تشاحنا وبلغت الشَّحناءُ بهما هذا الحال.

القضاء بين الخصمَين

لَمَّا استَمَع سيِّدنا داوود عليه السلام لكلام المتحدث، وهو الأخ الأكبر؛ تأثَّر به، ومالَ إلى جانبه، لِمَا رأى من ضَعفه واستكانته؛ فانفَعَل وأصدرَ حُكمَه على القضيَّة من دون أن يستمع إلى كلام الأخ الأصغر، وقَبل أن يمنحَه الفرصة للإدلاءِ بحجَّته وبيِّنته، أو لتوضيح غايته ومقصده في ما يريده من أخيه {قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ}، هنا وفي أثناء كلامه، انتبه سيِّدنا داوود عليه السلام إلى أنَّه قد تعجَّل في القضاء، وأنَّه لا يصحُّ أن ينطق بالحُكم وهو في حالة الانفعال هذه: {وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ (24) فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ (25)}.

الخلاصة والدروس

لا ريبَ أن المتأمِّل في هذه الحادثة يدرك أنَّ سيِّدَنا داوود عليه السلام- وقد آتاه الله تعالى الحكمة وفَصلَ الخطاب بفَهم دقائق الكلام- قد راجَعَ في ذِهنه كلامَ الأخ الأكبر المشتكي وحلَّل مفرداته، بعدَ أن كَبح انفعالَ التعاطفِ معه؛ فوجده منطوياً على براءة الأخ الأصغر المطالب بكفالة النعجة من الظلم والعدوان، وهذا ما نحتاج إلى فِعلِه لنُدرك ما أدركه عليه السلام وجعلَه يتراجع عن حُكمه، ويستغفر الله تعالى منه، والخطأُ في إصدار الأحكام القضائيَّة بسبب تلاعبِ أحَدِ الخصوم بعواطف القاضي بكلامه، أمرٌ واردٌ على الأنبياء؛ إذ قال رسولنا الكريم، صلَّى الله عليه وسلَّم: (إنَّما أنا بَشرٌ، وإنَّكم تَختَصمون إليَّ، ولعلَّ بعضَكم أن يكونَ ألحَنَ بحُجَّته من بعضٍ؛ فأَقضيَ على نحو ما أَسمَعُ، فمَن قَضيتُ له من حقِّ أخيه شيئاً، فلا يأخذه، فإنَّما أَقطَعُ له قطعةً من النار)، وقال صلَّى الله عليه وسلَّم: (إنَّ من البيانِ لَسِحرًا)، وإنَّ من سحر البيان قَلبُ الحقائق وتشويهها في ضمير السامع.

ونفهم كذلك ضرورة التقاضي لحل النزاع، كما حصل من الأخوَين المؤمنَين الصالحَين؛ اللذين تحمَّلا عناءَ تسلُّق الأسوار للتوصُّل إلى سيِّدنا داوود عليه السلام، ومعرفة حكمه على القضية، ويؤكِّد اتِّصافهما بالتقوى والصلاح ما اشترطوه على سيِّدنا داوود عليه السلام من بيان الحق والهداية إلى سواء الصراط في القضية، زيادة على أهمية احترام الكبير بتقديمه في الكلام، وهو ما فعله سيدنا داوود حينما استمع بداية للأخ الأكبر، وقد حثنا رسول الله، صلى الله عليه وسلم، على ذلك حين اختصم إليه جماعةٌ من الأنصار يطلبون دمَ رجلٍ منهم قد وُجد قتيلًا في خيبر، فلمَّا أراد الذي شهدَ الحادثةَ الكلامَ، وكان في القوم مَن هو أكبر سنًّا منه قال له رسول الله، صلَّى الله عليه وسلَّم: (كَبِّر، كبِّرْ)، واستمع إلى كلام «الأكبر» رغم أنه كان غريباً عن القتيل ولم يشهَد الحادثةَ.

من العِبَرِ كذلك اجتناب الغضب أثناء الحكم، فقد أدى حسن العرض للأخ الأكبر إلى انفعال من خلال كلامه عن الخلطاء؛ لأنَّه كلام وعظيٌّ لا يصدر إلَّا في حالة الانتقاد لظواهر المجتمع، أما الأخ الأصغر (الغني) فمقرٌّ ومعترفٌ بمُلكيَّة أخيه لتلك النعجة؛ ولذلك طالبَه بكفالتها فقط، والكفالةُ تقتضي الضمانَ العامَّ، وهذا يشهد له بسلامة النوايا تجاه أخيه، فهو لم يستَولِ على النعجة، ولم يأخذها غصباً، وأنَّه ما تعدَّى حدودَ المطالبةِ الكلاميَّة بكفالتها فقط، بدليل أنه ذهب يتقاضى ولم يأخذها عنوة.

حسن التدبير

نستخلص أنَّ في وصف المشتكي لأخيه بامتلاكه هذا الكمَّ الكبير من النِّعاج، ما يدلُّ على كونه حسنَ التدبير، متقناً في إدارة المال وتنميته، على عكس الحال مع «الواصف»، زيادة على أنه تتَّضح لنا الدوافع التي جعَلت سيِّدنا داوود عليه السلام يعتقد أنَّه قد فُتن فأخطأ في الحكم على القضيَّة؛ فاستغفر ربَّه وسجد توبةً، وهذا يرسِّخ المعنى الذي أشرنا إليه آنفًا، وهو التعقيب الإلهيُّ على الحادثة، الذي وجَّهه الله تعالى لسيِّدنا داوود عليه السلام؛ فقال تبارك وتعالى: {يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ (ص-آية 26) }.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.