نهضت «مُنى» من النوم مبكرا كعادتها، هرعت إلى المطبخ لتقوم بعمل الساندويتشات قبل أن يستيقظ أبناؤها فتساعدهم فى ارتداء ملابس المدرسة مثل كل يوم.. وتبدأ فى تحضير طعام الغذاء حتى يصبح جاهزا متى تعود من العمل. هكذا كان يوم مُنى دوما دوامة متصلة من التفكير والمجهود غير المنقطع، حتى إنها كانت تصحو أحيانا فى منتصف النوم وقد تذكرت شيئا يجب أن تقوم بعمله فى الصباح، فتوقد ضوء الأباجورة وتدون ما تذكرته فى مفكرة صغيرة هى كل حياتها..
أما زوجها «أحمد» فقد كان من الطبيعى أن يشكو إهمالها له، وكان يؤنبها دائما وأبدا بأن حياتها قد أصبحت تدور فى محور واحد وهو أطفالها.. حتى إنها نست أو تناست أنها سيدة متزوجة.. وقد انعكس شعوره بالإهمال فى شكل (بووز) يومى أو قناع من الجبس يرتديه فور دخوله للمنزل!
بعد 10 سنوات من الزواج.. تحولت جدران المنزل إلى شاهد عيان على حالة من الصمت التى داهمت كل شىء.. فالحوار بينهما أصبح ذكرى.. والحب أصبح تاريخاً.. واللوم أصبح مثل الكُرة كل منهما يلقيها فى ملعب الآخر حتى يستريح.. وتحولت عصبية مُنى الشديدة من تصرفات زوجها إلى حالة من الحنق والغضب التى تصبهما على أطفالها بسبب أو بدون سبب..
لكن فى هذا اليوم قررت مُنى أن تستمع إلى كلام صديقتها الحميمة التى نصحتها بأن تبذل مجهودا أكبر كى تكسر حالة الصمت بينهما، وأن تبادر هى بالخطوة الأولى لإصلاح ما أفسده الدهر..
وكانت نصيحة صديقتها ببساطة:
(يا بنتى الرجالة دول زى العيال.. تضحكى عليه بكلمتين، وفى عز الشوق والحنية تطلبى منه فلوس كسوة العيال والمصيف اللى مستلوح فيهم من يوم ما اتجوزك!)
وعلى الطرف الآخر، كان أحمد يشكو لصديقه الأنتيم إهمال زوجته الذى فاق الحد:
(يا بنى دى عليها ضربة بووز لو اتوزعت على الجمهورية، حيفضلها شوية تدخل بيهم مسابقة أراب أيدول وتكسبها! بومة أصلى يا باشا!).
واضطر صديقه أن يُسديه النصيحة الخالصة:
(بقى لكم قد إيه ماخرجتوش؟ يا أحمد خدها واتلكك على مناسبة وخرجها، حتى لو كانت مناسبة عائلية، وأهى منها خروجة ومنها تتلهى فى الناس وتطلع من دماغك)
وجاء اليوم الموعود.. 14 فبراير.. عيد الحُب الأمريكانى!
وعلى الرغم من أن رأى أحمد فى هذا الاحتفال دائما كان يلخصه فى جملة بليغة تتسم بالغلاسة المتناهية والطناش المُبتكر:
«يا حبيبتى.. اللى يحتاجه البيت يحرم على الجامع، وبعدين ده أصلا مش عيدنا.. ثم إن الفالانتين ده بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة فى النار!»
وكان رد مُنى فى جملتين لا ثالث لهما:
( اللهم فوِّى إيمانك.. ربنا لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا!)
هذا العام قررت مُنى أن تبادره بالخطوة الأولى.. ولكن تُرى هل سيتذكر؟!
استيقظ أحمد كالعادة مبتئسا، متأفأفا، ناهرا الأولاد.. قائلا:
«هو كل يوم السيرك اللى ناصبينه عالصبح ده؟ ماينفعش يوم واحد تتنيلوا تنزلوا من غير ما تقرفونى وتصحونى بدوشتكم.. طبعا ما هو العيب مش عليكم!»
وكالعادة وصلت الرسالة منى فقرأتها وبلعتها وصمتت..
ذهبت إلى العمل وعادت لتجده جالسا أمام التليفزيون.. منتظرا قدومها لتسخن طعام الغذاء وكأن يداه قد شُلت! لم تمتعض.. ولم تتذمر.. فقط دعت الله أن يرفع عنها البلاء!
فجأة دون أى مقدمات، قام أحمد من مكانه وقال لها:
«أنتى عارفة النهارده إيه؟»
أخيرااااااا... ابتسمت فى هدوء وقالت بصوت يملؤه التفاؤل والاستغراب معا:
«طبعا فاكرة.. غريبة إنك أنت اللى افتكرت»
«يا سلام.. إيه الغريب فى كده.. الغريب إنك مبسوطة إنى افتكرت، وأنا متعود دايما إنك تقطمينى كل ما أعمل حاجة حلوة أو وحشة..»
أومأت برأسها، لكنها لم تشأ أن ترد حتى لا تُفسد اليوم.. وقالت متسائلة:
«طب أنا جبت هدية صغيرة كده وكنت.......»
علا وجه أحمد ابتسامة كبيرة وحالة من الفرح والامتنان لم ترها مُنى منذ سنوات:
« أهى دى بقى اللى غريبة.. عموما.. أنا بقى قلت أخلى موضوع الهدية دى لما ننقيها سوا.. يالا البسى.. تعالى ننزل مسافة ما العيال يحلوا الواجب ونرجع»..
نهضت مُنى وارتدت أبهى فساتينها، لم تكن قد ارتدت فستاناً منذ سنوات، فالمناسبات التى تحتاج إلى قيامها بدور الأنثى فى حياتها أصبحت تُعد على أصابع اليد الواحدة.. ما جعلها تُفكر جديا فى إهداء فساتينها للمتحف المصرى!..
أدار أحمد السيارة وركبت مُنى بجواره.. وانطلقا.
لم ينطق بكلمة منذ تحركت السيارة وحتى التلت ساعة الأولى.. فشردت مُنى بخيالها وتذكرت تلك الأيام التى لم يكفا فيها عن الكلام والثرثرة والضحك.. قالت ممتعضة:
«هو أنت ماحلقتش دقنك النهارده ليه؟»
رد مُستفزا:
«وهو أنا كمان يوم إجازتى حاحلق دقنى! ليه عليا حكم أشغال شاقة مؤبدة؟».
«بس شكلك عجيب قوى.. يعنى ما شفتش براد بيت إمبارح فى الفيلم كان شكله إيه؟»
«معلش يا أنجلينا استحملينى شوية، ما هو ما عندوش عيال زنانين ما بيبطلوش طلبات.. ولا زوجة نكدية عاملة له فيلم (دعنى والدموع) طول الوقت!».
عاد الصمت يشق الطريق بينهما من جديد.. وبدأت هى الكلام..
«فاكر أيام ما كنت بتجيب لى ورد أيام ما كنا مخطوبين»
«أياااااام.. أدى أنتى قولتيها.. أيام!.. وبعدين هو أنا باشوف منك إيه علشان أجيب ورد والا زفت.. ده أنتى يا إما بتزعقى فى العيال علشان المذاكرة والتمارين، يا إما تعبانة وقرفانة ومش طايقة حد يكلمك، ونايمة فى العسل من الساعة عشرة زى الفراخ!».
«وهو المجهود اللى أنا باعمله قليل، ده يهد بلد.. وسعادتك طول النهار قاعد أدام التليفزيون عايز اللى يحضرلك الأكل واللى يهشكك ويدلعك.. وكل ما أفتح بقى تقولى ما هى ماما ربت ثلاث رجالة وبنت زى الفل وعمر بابا ما رجع البيت لقاها نايمة».
«طب ماهى دى الحقيقة، وجعتك قوى كده ليه؟.. لأ.. وعمرها ما كانت بتقعد له ضاربة بيجامة كستور مقلمة وشرابين فوق بعض! وتقول له أصل الأرضيات عندنا بورسلين والشقة تلج!.. يعنى لو ماكنتش استخسرت وعملتها باركيه! قال يعنى بقى.. كان زمانك ساعتها برضه لابسة الكستور بس على شراب واحد! ما هو اللى فيه داء»
انفعلت مُنى فقد دخلت فى متاهة المناقشة المعتادة التى تأخذهما إلى لا شىء:
«وماما كمان كانت هى اللى بتجيب النجار والسباك والكهربائى وبابا قاعد مع أصحابه على القهوة أو مطنش وما عندوش وقت يقوم بدوره كراجل.. والا كان زيك بيستخسر يصرف عالبيت لا يستهوى!».
« أمال حجيب منين الفلوس اللى أنتى وولادك عمالين تصرفوها من غير ما تسألوا فى التور اللى رابطينه فى الساقية، حسبى الله ونعم الوكيل.. بذمتك آخر مرة طبختى إمتى»
«نعم... طبخت!! أمال الكرش ده جالك منين؟»
«من التيك أواى يا مدام.. طبعا ما هو الجواز استقرار!.. يعنى بدل ما الواحد كان وهو عازب ينزل يروح المطعم يتغدى، دلوقتى بقى بتاع الديلفرى يجيله لحد البيت!».
«يا حبيبى ده أنا بقى لى 6 أشهر باقولك شباك الريسبشن مفوت بيدخل هوا هات لنا نجار.. ولما ربنا كرمك وحبيت تسكتنى جبت حتة خشبة وحشرتها جنب الشيش وقلت لنا ماحدش يفتحه!.. والا أختك اللى آخر مرة جت عيد ميلاد العيال جايبلهم لعبة مستعملة كانت قديمة عند عيالها.. وأبوك اللى نسى اسم بنتك وعامل فيها خفيف وبيندها ويقولها: (خدى يا أمورة)!»..
فى لحظة فاصلة.. قرر أحمد التوقف بالسيارة.. فقد انتهى المشوار قبل أن يبدأ.. استدار وقرر العودة بعد أن علت صيحاتهم حتى أصبحوا فرجة لكل السيارات المجاورة..
دخل أحمد الفراش، وأدار ظهره لمُنى.. وقفزت هى فى البيجامة وأعطته ظهرها..
«أنتى عارفة أن النهارده كان يوم مهم جدا وأنتى بوظتى الخروجة.. انتى عارفة النهارده إيه؟»
لم تنطق مُنى.. فعاد يقول:
« النهارده يا هانم كان..... . كان... كان عيد ميلاد سارسورة أختى.. وكنت مواعدها إننا نروح نحتفل معاها بيه.. عاجبك كده»
كادت مُنى أن تشق هدومها وتلطم على وجهها..
هل تبحث عن يد الهون وتهوى بها على رأسه؟ أم تضع له سُما فى الشاى حتى تنسى هذه المرحلة من حياتها؟ أم تفتح باب الشقة وتهرب حافية وتترك له أبناءه بلا عودة؟.
عادت الكلمة ترن فى أذنها... عيد ميلاد سارسورة!..
إذن اليوم بالنسبة له لم يكن سوى عيد ميلاد سارسورة.. يالهووووووى..
رن جرس الهاتف.. أمسك بالسماعة فإذا بأخته سارة على ما يبدو تُعاتبه على الهاتف..
«ماقدرش على زعلك يا سارة يا حبيبتى.. كل سنة وأنتى طيبة.. إيه؟؟ كمان... طيب يا ستى ماتزعليش وهابى valentine's day كمان..»
أغلق الهاتف.. ونظر إلى زوجته ثم عاد يسألها بكل برود..
«هو مش ده برضه عيد الحُب بتاع الأمريكان.. أمال المصرى إمتى؟ ولو أن أنا من المؤمنين بأن الحب مش محتاج عيد.. ده المفروض يبقى احتفال نعيشه كل يوم «.