ثمة قصائد معينة ما إن أقرأها حتى تسكننى وتحتلنى، وتظل تلاحقنى أينما أسير،... بين الحين والحين تطل بأبياتها وتذكرنى بأنها ما زالت تعتصر القلب، وتتكئ فيه بكل ثقلها على أعمق الجراح وأكثرها وجعا، واحدة من تلك القصائد هى قصيدة: «الاسم المشطوب» للشاعر الكبير عبدالرحمن الأبنودى التى قرأتها للمرة الأولى منذ ما يقرب من أربعة أعوام ثم أعدت قراءتها فى هذه الأيام ضمن قصائد ديوان « الميدان»، الذى صدر مؤخرا عن الهيئة العامة للكتاب متضمنا مجموعة القصائد التى كتبها الأبنودى إبان ثورة يناير 2011 وإلى جوارها مجموعة أخرى من القصائد التى رغم أنه كتبها قبل ذلك، بعضها قبل ذلك بسنوات فإنها تصنع مع قصائد الثورة سيمفونية واحدة متكاملة الأنغام، وعلى رأس تلك القصائد قصيدة «الاسم المشطوب» التى أشرت إليها منذ قليل والتى تحمل فى صورها الشاعرية البديعة طبيعة الجرح المصرى الذى عشناه قبل يناير 2011 والذى يبدو للأسف الشديد أننا مازلنا نعيشه بعدها، وحتى لا يكون كلامى تجريديا خالصا بالنسبة للقارئ الذى لم تتح له فرصة قراءة ديوان «الميدان»، ولم تتح له فرصة قراءة «الاسم المشطوب»، حتى لا يكون كلامى كذلك بالنسبة لمثل هذا القارئ أرى من الضرورى أن أشير إلى أن المحور الذى تدور حوله القصيدة هو شخصية البطل المصرى محمد عبدالعاطى الذى اشتهر فى حرب أكتوبر 1973بأنه صائد الدبابات حيث استطاع بمفرده أن يدمر 23دبابة و3مجنزرات إسرائيلية وكان بذلك واحدا من صانعى مجد أكتوبر، لكنه مثل كل صانعى الأمجاد لم يكن واحدا من قاطفى الثمار فقد عاش أخريات حياته يعانى وطأة الحاجة والمرض إلى أن فارق الروح فى عام 2001، ولقد كان موت عبدالعاطى بالطريقة التى مات بها نموذجا للجرح المصرى الموجع، حيث أناس يصنعون المجد وآخرون يقطفون الثمار، وبقدر ما كان اشتعال الحلم الوطنى الذى أشعله فى نفوسنا نصر أكتوبر بأن يكون هذا النصر بداية لاستراتيجية شاملة للتحرر الوطنى والاستقلال الذى يجنى ثماره كل من صنعوا هذا المجد وفى مقدمتهم عبدالعاطى ورفاقه الأبطال، بقدر ما كان اشتعال هذا الحلم، بقدر ما كان الإحباط حين انقض على الوطن برعاية صاحب القرار مجموعة من الأفاقين والانتهازيين واللصوص الذين تزيوا بزى المستثمرين ورجال الأعمال وراحوا يجنون وحدهم الثمار بينما شطب اسم عبدالعاطى، وأقصى هو ورفاقه إلى دائرة الظل والنسيان، وهكذا اغترب الوطن الذى نحلم به عن الوطن الذى نراه، وأصبح من حق الأبنودى أن يتساءل: فين إحنا دلوقتى يا عبدالعاطى؟/مين اللى وطى العالى ياصاحبى/ وعلّى الواطى؟/ مين اللى اشترى بتمنك / الصحرا والشاطى؟، وأصبح من حقه أيضا أن يخاطب عبدالعاطى قائلا: كلمنا وانت ع السرير عيان / عن اللى ولّى وخان / وعن اللى باع النصر فى الدكان / مش ده الوطن / اللى اتفقت معاه ياصحبى/ زمان/ تئن والأنين مرير / ولا إنت بتتقلب على السرير/ سرير فقير / تطلق زفير الحزن / فى النفس الأخير / ولا الشاشات بكيت / ولا المذياع أذاع / فاكشف غطا وجهك / ومزق القناع / بلا حكومة / بلا رئاسة / بلا معارضة / بلا بتاع !!، وكما كانت ثمار أكتوبر عنوانا لتلك المفارقة الموجعة: مفارقة من يصنعون المجد ومن يقطفون الثمار.. كذلك كانت ثورة يناير 2011حيث أشعل فتيل الثورة وخاض معاركها شباب آمنوا بها وضحوا بحياتهم من أجلها، بينما قطف غيرهم ثمارها، إنها نفس المفارقة التى يصلح معها أن يصبح الاسم المشطوب «عبدالعاطى» عنوانا لها فى الحالتين، ويبقى بعد ذلك أن أشير إلى أن قصيدة: الاسم المشطوب كما سكنتنى فقد سكنت كذلك قارئا متذوقا مرهفا هو الأستاذ محمد خير الذى كتب عنها دراسة بديعة نشرت فى «الدستور» التى نشرت فيها القصيدة لأول مرة، وقد أحسن الأستاذ الأبنودى صنعا عندما ألحق هذه الدراسة بالديوان جنبا إلى جنب مقالتين أخريين بديعتين للكاتبين الموهوبين بلال فضل ومحمد القدوسى.