يوم الثلاثاء الماضي- أول أمس- غادرت أستاذة الأدب الانجليزى الدكتورة منى برنس القاهرة فى طريقها إلى السويس، فى موعدها الأسبوعى المعتاد منذ سنوات مع طلبتها بكلية التربية فى جامعة قناة السويس. كانت الدكتورة منى تعلم جيدا أن المشاكل فى انتظارها هناك. قبل أيام أخبروها أنها موقوفة عن العمل بقرار من رئيس الجامعة بناء على شكوى تقدم بها بعض الطلبة يتهمون فيها الدكتورة بازدراء الإسلام وفرض مواد إباحية على الطلبة!
الشكوى تزامنت مع حملة على فيسبوك وفعالية تم الحشد لها من قبل الصفحات الإخوانية والسلفية لتنظيم وقفة تطالب بطرد الأستاذة من الكلية...فى مهزلة جديدة تنضم إلى قائمة مهازلهم.
الموضوع نوقش فى وسائل الإعلام، وظهرت الدكتورة منى فى حلقة من برنامج «جملة مفيدة» مع المذيعة منى الشاذلى، تحدثت فيها الطالبة التى قادت الحملة وقدمت الشكوى ضد الدكتورة، كما تحدث رئيس الجامعة الدكتور ماهر مصباح الذى بدا عليه الارتباك والخوف، وراح يكرر أنه استجدى الطلاب الشاكين ليتعاملوا برفق مع أستاذتهم، كما أكد أنه لا يوجد قرار بالإيقاف بعد، وإنما مجرد تحقيق فى الشكوى.. ولكن مثل كل شيء فى بلد رئيسه يقول الكلام وعكسه طوال الوقت، فنفس الشيء يحدث مع «قرار» أو «لا قرار» إيقاف الدكتورة عن العمل. خلال الأيام السابقة حاولت الدكتورة منى أن تحصل على قرار إيقافها من مكتب عميد الكلية أو رئيس الجامعة..وكان الرد أنه لا يوجد قرار بعد، ولكنهم نصحوها مع ذلك بعدم الذهاب إلى محاضراتها. الدكتور الذى قام بإلقاء المحاضرات بدلا منها طلب من إدارة الكلية تكليفا رسميا مكتوبا بتولى المحاضرات فرفضوا. وبما أن العصابة التى أدمنت العمل السرى لا تريد أن تدخل فى مواجهة رسمية مباشرة، لذلك قررت الدكتورة منى أن تذهب إلى محاضراتها لمواجهتهم وليكن ما يكون.
الدكتور شاكر رزق تقى الدين هو وكيل كلية التربية وأستاذ بقسم اللغة الإنجليزية مثل الدكتورة منى برنس، ولكنهما ضدان على طرفى نقيض. الدكتورة منى «من بتوع التحرير» كما يصمها أعداؤها وحاسدوها، أديبة وناشطة سياسية ومشاركة منذ اليوم الأول، وحتى أمس الأول، فى الثورة. الدكتور تقى الدين قضى سنوات من العمل فى الخليج قبل أن يعود أخيرا للعمل فى الجامعات المصرية، وهو يكره الثورة واسمها.
عندما توجهت الدكتورة منى أمس الأول إلى الجامعة وجدت الدكتور تقى فى استقبالها على باب القاعة وأمام طلبتها أعلن بالصوت الحيانى أنها ممنوعة من إلقاء المحاضرة وموقوفة عن العمل بقرار من العميد. رغم الأسلوب المهين الذى لا يجب أن يسلكه أستاذ جامعى، خاصة مع أستاذة مثله وأمام طلابهما، فقد قررت الدكتورة منى أن تخوض المعركة لآخرها حتى تكشف أبعاد المؤامرة التى دبرت بليل بين بعض زملائها وطلابها من الذين ارتضوا لأنفسهم أن يتحولوا إلى أداة قتل لأستاذتهم من أجل بعض الدرجات. توجهت الدكتورة منى إلى مكتب العميد لتحصل على صورة من قرار الإيقاف، فقالوا لها إنه لا يوجد قرار. انتظرت الدكتورة حتى موعد المحاضرة التالية وعلى باب القاعة وجدت الدكتور تقى يمنعها من الدخول مرة أخرى ويؤكد أنها موقوفة عن العمل.. وللمرة الثانية ذهبت إلى مكتب العميد ليخبروها أنه لا يوجد قرار. وهنا أدركت الدكتورة منى أن الأمر لا يتعلق بالشكوى محل التحقيق، ولا باستياء بعض الطلبة من أفكارها، ولكن بشيء أكبر من هذا كله... بمخطط مرسوم بدقة لعمل فرقعة دينية تضرب «إسفين الفتنة» فى الجامعة...أولا للتشويش على ما يحدث من مظاهرات ومعارضة سياسية ضد حكم الإخوان داخل الجامعة، وثانيا لأن مناخ الفتنة وإثارة الذعر والمزايدات الدينية هو المناخ الوحيد الذى يمكن أن يسترد فيه «الاسلامجية» مواقعهم التى خسروها داخل الجامعات والنقابات!
فشل سياسى، عجز فكرى، وخلل أخلاقى. عندما تجتمع الصفات الثلاث فى نظام أو كيان حاكم.. فماذا تتوقع أن يفعل عندما يوشك على السقوط؟
حرق الأرض التى ينسحب منها، إشعال الفتن، افتعال المعارك الوهمية لتحقيق انتصارات وهمية.
انهزم الإخوان فى ساحات القضاء.. فقرروا تدمير مؤسسة القضاء نفسها. انهزموا فى انتخابات الجامعات فأعلنوا الحرب الشعواء داخل المدرجات وخارجها. انتقدتهم وسائل الإعلام التى تنقل موقف الشارع والنخبة منهم فقرروا تدمير الإعلام.
واقعة الدكتورة منى ليست الأولى من نوعها. على مدار الأسابيع الماضية جرى استخدام التلاميذ والأطفال كمخبرين ووشاة ضد أساتذتهم، كما جرى استخدام مدرسين لاضطهاد تلاميذهم وتلميذاتهم. فى كل هذه الوقائع تم تهييج العامة وتنظيم الوقفات والمظاهرات، فى حين تسترت العصابة تماما على مدرس ملتح قام باغتصاب معظم تلميذاته!
قضية الدكتورة منى برنس مفتعلة تماما مثل الوقائع السابقة، وكما يثبت من تفاصيلها الصغيرة التى أتحدى أن يقوم أى مجلس تحقيق فيها بإصدار قرار بالفصل أو الايقاف.
الحكاية - كما هو واضح - أن هناك بعض الطلبة الذين تلقوا تعليما فاشلا وصل بهم إلى الجامعة ارتضوا لأنفسهم أن يتحولوا إلى مطية لعصابة خارج الجامعة وداخلها تستخدم الطلبة والتلاميذ لافتعال المعارك السياسية الدينية لإلهاء الرأى العام وإثارة النزعات والنعرات الطائفية.
هناك واقعتان محددتان مذكورتان فى الشكوى التى تقدم بها هؤلاء الطلبة. المادة التى تقوم بتدريسها الدكتورة منى اسمها «محادثة ومناقشة» هدفها تدريب الطلبة على التفكير والمناقشة، ليس لها منهج مقرر محدد. التعليم الجامعى فى مصر فى محنة يعلمها الجميع، فقد تحول إلى امتداد لنفس النظام التعليمى الفاشل فى المدارس، الذى يقوم على التلقين والحفظ وترديد الثوابت حتى لو كانت خرافات وخزعبلات علمية.
المادة التى تقوم بتدريسها الدكتورة منى تختلف لأنها تعتمد على شيئين: مشاركة الطلبة فى اختيار الموضوعات التى يناقشونها، وإبداء كل وأى رأى يخطر ببالهم فى هذه الموضوعات.
الشكوى المذكورة أشارت إلى اثنين من هذه الموضوعات. الأول هو قضية انتشار التحرش الجنسى فى مصر، التى وصلت على يد أعداء الثورة إلى عمليات اغتصاب مدبرة وجماعية للمتظاهرات وللمعتقلين من الجنسين. والمقال الذى رشحته الدكتورة منى لمناقشته ولم يعترض عليه أحد من الطلبة منشور بالإنجليزية على موقع صحيفة «فرونت بيدج ماجازين».. يتناول ظاهرة التحرش فى ميادين مصر ما بعد تنحى مبارك، ويستشهد ببعض الوقائع والشهادات لمصريات وأجنبيات، كلها تم بثها أو نشرها من قبل فى برامج فضائية مصرية أو صحف مصرية وأجنبية.
ولكن يبدو أن بعض الطالبات شعرن بالإثارة من هذه الشهادات المفجعة التى لا تثير سوى نفور وتقزز أى إنسان سليم الحس والنفس!
وبغض النظر عن هذه العبارات التى تتداولها وسائل الإعلام يوميا أتصور شخصيا أن ما أثار حرقة المحركين للشكوى هو أن المقال يتعرض لدور الإخوان وشيوخ الفضائيات فى تدبير عمليات الاغتصاب الجماعى والتحريض عليه والدفاع عنه.
الطالبة التى تقود حملة الكراهية ضد الدكتورة منى.. أشارت أيضا إلى محاضرة أخرى حديثة ناقشت فيها الدكتورة وطلبتها ما حدث فى قرية «الخصوص» وما أعقبه من اعتداءات على الكاتدرائية، وما سبقهما من حوادث فتنة طائفية تهدد بحرب أهلية حقيقية، وراءها بالتأكيد عصابة «السلطة لنا أو الدمار الشامل».
منذ الإطاحة بالدكتور نصر حامد أبو زيد فى تسعينيات القرن الماضى، لم تتعرض الجامعة المصرية لمثل هذه الفضيحة التى يندى لها جبين أى مجتمع متحضر، فقد كان ولا يزال تكفير وملاحقة الفلاسفة والعلماء وأساتذة الجامعات.. هو أكبر جريمة يمكن أن يرتكبها مجتمع ما فى حق حرية التعبير. لأنه لو غابت حرية التعبير فى الجامعة فقل على الحرية السلام فى المجتمع كله.
صحيح أنه فى ظل حكم الإخوان جرت فضائح مماثلة أصغر، مثل إحالة الدكتور يونس خضرى محمود، الأستاذ المساعد بقسم الدراسات الإسلامية، بجامعة المنيا للتحقيق فى نوفمبر الماضى واستبعاده من التدريس بسبب اعتراضات عدد من طلاب قسمى اللغة العربية والدراسات الإسلامية على المحتوى التعليمى الذى يقوم بتدريسه ضمن مادة التاريخ الإسلامى، وكذلك إحالة الدكتور هشام عنتر عضو هيئة التدريس بكلية الهندسة جامعة عين شمس فى مارس الماضى والمعار لإحدى جامعات كندا للتحقيق بعد تنظيم عشرات الطلاب وأعضاء هيئة تدريس بكلية الهندسة بجامعة عين شمس وقفة احتجاجية داخل الكلية، للتنديد بما اعتبروه إساءة للنبى محمد عبر مواقع التواصل الاجتماعى.
الدكتورة منى برنس تعرضت هى نفسها لأزمة سابقة بسبب مشاركتها للموظفين والعاملين بالجامعة فى إضرابهم عن العمل من أجل رفع رواتبهم أسوة بالأساتذة، وهو ما عرضها لعداء وخصومة مباشرة مع رئيس الجامعة ووكيل الكلية. وبما أنه كان من الصعب اتخاذ موقف من الدكتورة منى بسبب تضامنها مع زملائها فى إضرابهم، فقد كان الأكثر منطقية تدبير هذه الخطة الجهنمية مع بعض الطلبة المنتسبين لنفس التيار، كما رأينا فى الحالات سابقة الذكر، وكما نرى فى جامعة الأزهر من محاولات للاطاحة بشيخ الأزهر باستخدام الطلبة كأداة.
وربما لا يعلم البعض أن السيد مرسى بمجرد توليه الحكم قام بمضاعفة رواتب ثلاث فئات فقط لاغير.. وبشكل لا يتناسب بالمرة مع الفئات والمهن الأخرى. هذه الفئات هى الجيش والشرطة وأساتذة الجامعات.. الأساتذة فقط وليس الموظفين والعاملين بالجامعات. استرضاء الجيش والشرطة أمر مفهوم بالطبع، ولكن قد يبدو الأمر غير مفهوم فيما يتعلق بأساتذة الجامعة. هذا الغموض سيتضح حين نعلم أن مرسى كان على وشك الاستعانة بهم للإشراف على الانتخابات بدلا من القضاة، وأن بعضهم، من أنصار الجماعة، تمت الاستعانة به فعلا، والأهم حتى من الانتخابات هو التمهيد لإخصاء الجامعات، بعد المدارس، لضمان قمع حرية التفكير وضمان تخريج أجيال من الدجاج والخراف المدجنة تماما.
قضية الدكتورة منى تحتاج إلى تضامن الجميع، ليس فقط بسبب ما تعرضت له من إساءة ومهانة، ولكن لحماية كل أصحاب الرأى والفكر الذين ينتظرهم مصير مماثل إذا لم يتضامنوا الآن ضد طيور وذئاب الظلام، ولحماية العقل المصرى نفسه من أيدى الطغاة.
مؤسسة حرية الفكر والتعبير، والمبادرة المصرية للحقوق الشخصية، أصدرتا بيانا مشتركا يدين ما حدث للدكتورة منى برنس، وحركة «9 مارس» لأساتذة الجامعة على وشك اتخاذ موقف مماثل، باستثناء بعض «الإخوانجية» الذين يعملون كطابور خامس فى الحركة، مثلما فعلوا فى حركة «قضاة من أجل مصر» وغيرها.
الوحوش كشرت عن أنيابها الملوثة، وكل مواطن فى مصر يحتاج أن يستدعى ويفكر مليا فى الحدوتة الشعبية التى تروى مساوئ الجبن واللامبالاة من خلال قصة أسد مخادع وأربعة ثيران طيبين، التى تنتهى بالعبارة الحزينة للثور الرابع قبل أن يلتهمه الأسد: «لقد أُكلت يوم أكل الثور الأبيض»!
كل من يسكت على ما حدث للدكتورة منى سينتهى به الحال قريبا جدا مكانها، وتذكروا عبد الصبور شاهين الذى كفر الدكتور نصر حامد أبو زيد وقاد الحملة ضده، وكانت النتيجة أن وحش التكفير ابتلعه هو أيضا بعدها بسنوات!