فى القرن الرابع قبل الميلاد قال الخبير العسكرى الصينى «سن تزو»: لقد وجُد عملاء التجسس منذ تعلم الإنسان شن الحروب، وإن الذين يعرفون أعدادهم كما يعرفون أنفسهم.. لن يعانوا أبداً من الهزيمة. هكذا آمن فتى بربه، وبعذوبة تاريخ بلده، وبرسوخ حضارة آثاره.. فمنح وطنه دماء روح قلبه لغسل العار، وأقسم على الولاء للتخلص من الأشباح.. فقطع الأيدى القذرة الملوثة بدم الأبرياء.
قال عنه الشاعر«عبد المجيد راشد» عضو حركة «كفاية»:
«مسحراتى بصرخ ليلاتي،على طبلة صوتها أنين ناياتي: اصحوا وفوقوا لكل آتي، أوجاعنا جارحة، ودموعنا سارحة، أوضاعنا شارحة، من غير ما هاتى الاسم نورالدين، طرح البساتين، زهرة مقاومة، من شوك التاريخ طالعة، الاسم محمود، والسيرة أمة، بهية الحضرة والطالعة،عنوانه جرح الوطن، بحساب وبمطالعة، موصول يا قلب البلد بوريده، معزوف يا لحن الأمة فى نشيده، محمية يا مصر بقلبه الشجاع وبإيده، لما تقول مين الوطن، وأمتى مواعيده، تلاقى نور الدين طالع فى يوم.
عيده، مسحراتي، بعلو صوتى وأقول: قلب الوطن موجوع، صوت البكا مسموع، صهد الجروح والدموع، ما يبلسمه غيره، وجنود فى «ثورة مصر»، مصر التاريخ والعز، مصراللى تصحى تهز، تقطع رقاب اللى خان وتجز، مين غيرك يا نورالدين، يسهر ينادي.. فى الحضر والبوادي، الأمريكان والصهاينة أعادي.. ليوم الدين، مين غيرك يا نور الدين، يلملم الأشلاء ويحضن الشهداء، يرهب الأعداء، ويجود بدمه، ولا عمره همه.. سجن أو عتمة، أو كلاب ضالة».
إنه «محمود نورالدين السيد على سليمان» البطل الثورى من الزمن الجميل «صائد جواسيس الصهاينة فى مصر» ضابط المخابرات المصري، وقائد « تنظيم «ثورة مصر» الشعبي» الذى تعقب عناصر الموساد من سنة 1984م إلى 1987م، ورئيس مجلس إدارة مجلة «23 يوليو» التى صدرت فى لندن برئاسة تحريرالكاتب الشقى الساخر «محمود السعدني» ومعه الصحفى الكبير حسين فهمى وفنان الكاريكاتير صلاح الليثي، وعاصم حنفى وآخرون بهدف معارضة اتفاقية «كامب ديفيد مع إسرائيل» وبعد الإعلان عن إصدارها حاول اليهود حرق منزله فى العاصمة البريطانية.
ولد فى محافظة الإسكندرية فى 26 يناير 1940م وبعد حصوله على الثانوية العامة سافر إلى لندن عام 1964م والتحق للعمل بإدارة التمثيل التجارى التابعة للسفارة المصرية فى لندن، وأتاح له وجوده هناك استكمال دراسته فحصل على بكالوريوس إدارة الأعمال، وألتحق بمكتب المخابرات العامة، وعمل مستشارًا أمنيًا فى السفارة، وكان عمله مختصا بمتابعة النشاط الصهيونى فى بريطانيا..
وهوالذى نجح فى المرة الأولى فى إنقاذ السفارة من طرد ملغوم، وفى المرة الثانية اكتشف العديد من رجال الموساد الذين أرسلتهم الولاياتالمتحدةالأمريكية بجوازات سفر أمريكية متجهين إلى القاهرة.
وأدى لبلاده خدمات جليلة خاصة خلال حرب عام 1973، واستمر فى عمله بكفاءة حتى جاءت زيارة الرئيس السادات للقدس عام 1977م، فكانت صدمة دفعته إلى تقديم استقالته، أو تمت إقالته كما أكد «جون بولوك» فى كتابه «حروب المياه الصراعات القادمة فى الشرق الأوسط»: إنه اثناء مفاوضات كامب ديفيد سلم «ستانسفيلد تيرنر» رئيس وكالة المخابرات الأمريكية رسالة شخصية للرئيس السادات تحتوى على خطة للانقلاب عليه.. فقد لفت انتباه الامريكيين السلوك غير الطبيعى لأحد ضباط المخابرات المصرية والملحق العسكرى فى لندن» الرائد محمود نورالدين» حيث اتصل سراً بجبهة المعارضة الوطنية المصرية بدون علم رئيسه، وبحكم عمله استطاع الحصول على بعض الوثائق التى تتحدث عن امكانية تحويل جزء من مياه النيل الى اسرائيل.. فطار الى الجزائر حاملاً معه هذه الوثائق لعرضها على «الفريق سعد الدين الشاذلي» وكان متاكداً أن المعلومات التى بحوزته ستقنع الفريق الشاذلى بخطته - كان نورالدين يخطط لانقلاب يقوده الشاذلى- وبحكم خبرته أدرك أن نشاطاته قد عرفت فآثر الاختفاء فترة وقد سرب شريك له -عثر عليه ميتا بعد ذلك- معلومات مهمة للمخابرات البريطانية التى وصلت بطبيعة الحال الى المخابرات الأمريكية ونتيجة لهذه المعلومات قام الامريكيون بالتنصت على المكالمات الهاتفية للفريق الشاذلي.
«وكانت الخطة تقتضى ان تقوم فصائل من القوات الخاصة باحتلال مبنى الاذاعة والتليفزيون بمجرد اذاعة أنباء تفيد بأن الرئيس السادات وافق على إعطاء مياه النيل لإسرائيل».
الشهداء.. معالم للطريق
الطريق إلى الديمقراطية مشروط بشرطين أساسيين الأول: تحرير الوطن من التبعية الأجنبية ومن الخضوع للاستعمار، والثاني: تحرير المواطن من كل انواع الضغط والاستبداد السياسى والاجتماعى «هكذا تعلم من عبدالناصر».
فقرر«نورالدين» وقف قطار الغزو بيده.. كان أسداً لايخاف ولايتراجع عن أى عملية خطط لها إلا فى حالة واحدة حينما «يشك شكاً بسيطاً» أن شظية قد تصيب مواطنًا مصريًا من جراء هذه العملية..
بين عامى 1980 و1983م تعاون مباشرة مع صديقه القديم «خالد عبد الناصر نجل الرئيس الراحل» وعاد كلاهما إلى مصر فى 1983.
وكان الهدف الرئيسى له تصفية كوادر الجواسيس العاملين تحت غطاء السلك الدبلوماسي، وعندما اقترح نور فكرة تأسيس تنظيم مسلح مهمته الوحيدة مطاردة السفير الصهيونى والعاملين معه وعناصر الموساد والاستخبارات الأمريكية، وافق خالد وقال: «إنها فكرة عملية للرد على الغطرسة الصهيونية»..
وخلال ستة أشهر بدأ التنظيم السرى الذى أطلق عليه «ثورة مصر» ، وهنا تولى نورالدين اختيار العناصر بعناية وكانوا جميعا وطنيين يكرهون العدو، ومتدربين على إطلاق النار، ونفذ التنظيم عملياته الأربع ولم يصب فيها مصرى واحد رغم توفر كل الاحتمالات فى مثل هذه العمليات التى شملت: عملية اغتيال «زيفى كيدار» مسئول الأمن فى السفارة الإسرائيلية بالقاهرة فى يونيه عام 1985، وفى أغسطس نفس العام وجه التنظيم ضربته الثانية للموساد الإسرائيلى حين قام باغتيال «ألبرت اتراكشى» المسئول السابق للموساد فى إنجلترا والذى كان يعمل بالسفارة الإسرائيلية فى مصر، ووصفه نورالدين فى حوار صحفى فيما بعد «بأنه كان يتلذذ بفقء أعين الأسرى المصريين».. وجاءت العملية الثالثة احتجاجا على مشاركة إسرائيل فى معرض القاهرة التجارى الدولى بمدينة نصر فقامت «ثورة مصر» بهجوم على سيارة إسرائيلية تضم المشاركين فى جناح إسرائيل بالمعرض فى عام 1986م، وأيضا على سيارة إسرائيلية أمام معرض القاهرة فى العام التالى مباشرة، وشهدت العملية الرابعة توسعا لضربات التنظيم حيث قرر نورالدين مد نشاطه لاستهداف رجال المخابرات الأمريكية فى القاهرة وكان يعلم بحكم عمله السابق فى المخابرات المصرية أن الولاياتالمتحدة هى خادمة إسرائيل، وتحقق ذلك فى هجوم شنه أعضاء التنظيم على 3 عاملين بالسفارة الأمريكيةبالقاهرة فى مايو1987م.
وهكذا دخلت المخابرات الأمريكية فى دوامة البحث عن «التنظيم وقائده محمود نورالدين» مع المخابرات الإسرائيلية -الموساد- بصفته خطرا على عملائها فى مصر، ومن ناحية ثالثة تبحث عنه السلطات المصرية بصفته مهددا لسلامة أشخاص تحت المظلة الدبلوماسية.. كان الوضع صعبا للغاية.. إلا أن رجل المخابرات المحنك لم يتنازل عن هدفه السامى فى صيد الجواسيس.
إلا أنه لم يكتف بهذا القدر من العمليات، واستمرت «ثورة مصر» فى إثارة جنون الموساد بعد عملياتها الناجحة الواحدة تلو الأخري.. كان الموساد بكل عيونه وجواسيسه ومحترفيه يفاجأ بضربات نورالدين الموجعة الواحدة تلو الأخري، وكان اسم التنظيم يذاع فى وسائل الإعلام مقرونا بعمليات تصفية للموساد فى مصر..
رغم تزايد الصعوبة فى وجهه لقيام 3 أجهزة مخابرات بتعقبه، استمر تقريباً بالعمليات ما يقارب الثلاث سنوات قبل الكشف عنه، لأنه لم يكن وحيداً فى الواقع، كان لديه جهاز، وكثير من الرفاق ساعدوه، وله اتصالات، وكان «نور الدين» مدهشاً فلا تعرف كيف كان يعيش يومه؟ ومتى يفكر، ومتى يراقب، ومتى يعمل؟! كان يظل ساهراً 24 ساعة يراقب الهدف وحده، ثم يسافر إلى طنطا لصلاة الفجر فى مسجد «السيد أحمد البدوي» ثم يعود بعدها للنوم.. وفى اليوم التالى يعاود الكرة..
كان عصياً على أقوى ثلاثة أجهزة استخبارات، وكان التنظيم فى غاية السرية ومن الصعب اكتشافه..
وقد نفى وزير الداخلية وقتها «زكى بدر» وجود التنظيم إلى أن وقعت فاجعة سوداء من الخيانة!!
وكانت المخابرات الأمريكية على استعداد لدفع ثروة مقابل أى معلومة عن التنظيم.. وللأسف جاءتهم المعلومات على طبق من ذهب؟!
الخيانة.. وسجل الشرف
كان بفطرة الميلاد رجل مخابرات فهو إنسان محب للاستطلاع، يسخر حياته لكل ما يحيط به، بدءا منك أنت شخصيا، وحتى السيارة الجديدة التى اشتراها الجيران قريبا، كل شيء فى الحياة وبلا استثناء يسعى لاكتشافه، فالحياة بالنسبة له سر كبير لابد أن يكتشف، كما أن كل من يعيشون معه تحيطهم أسرار كثيرة ويجب أن يكون على علم بها أيضا.
بكل اهتمام يسأل ليعرف ويكتشف كل جوانب الحياة السياسية والرياضية، يحاول أن يتعرف على مشاكل الأطفال الصغار، وعن الأزمة التى نشبت بين صديقه وزوجته، عن حصان السباق الذى خسر فى السباق المرة السابقة، وعما أصاب العجائز من مرض الروماتيزم، وآخر رحلات الفضاء المكوكية، والتطور العلمى فى مجال الطب، وسيعرف أيضا الفرق بين جميع الفنون.. ولماذا تفضل أنت الفن الأوبرالى بعينه، وأزمة المسرح العالمية، وسبب انصراف الناس عنه.. يعرف كل صغيرة وكبيرة عن الريف وجماله، والوزراء والمسئولين بالدولة الذين لا يقومون بمسئولياتهم تجاه الشعب، آخر إبداعات الكتاب والأدباء والمفكرين» وغيرها الكثير.
كان ل«محمود» شقيق يدعى «عصام» يعتبر الرجل رقم 2 فى التنظيم، إلا أنه انحرف إلى طريق الإدمان، ورفاق السوء.. وهدد عصام أخاه نورالدين بفضح أمر التنظيم للمخابرات إذا لم يعطه أموالا ليشترى بها المخدرات، فلم يكن من نور الدين إلا أن أطلق الرصاص على قدمه كإنذار له على عدم الوشاية بالتنظيم..
إلا أن المخدرات لعبت فى أحد الأيام بعقل عصام، وخيل له الشيطان أن طريقا مفروشا بالورود أمامه إذا قام بالإبلاغ عن شقيقه محمود.
اتصل بالسفارة الأمريكية فى القاهرة، وما أن قال لعامل الاتصال إنه الرجل الثانى فى تنظيم «ثورة مصر» وطلب موعدا للقاء السفير حتى انقلبت السفارة رأسا على عقب.
وفى غرفة مغلقة ضمت السفير الأمريكي، وعصام نورالدين، ومسئول المخابرات الأمريكية، وآخر من الموساد.. وبعد إجراءات تفتيش طويلة له، وتكثيف الحراسة على السفارة كأنها حصن حصين، بدأ عصام على مدار ساعات يشرح كيفية عمل التنظيم، وكيف يقومون بالعمليات، ومصادر التمويل، وطرق التنفيذ!!
وأضاف لذلك قيامه بالاتصال أمام مسئولى السفارة بعدد من أعضاء التنظيم لضمان مصداقية كلامه، ثم ختم مستنقع خيانته للوطن و»أخيه» بتقديم « نوتة» تحتوى على أسماء جميع رجال التنظيم.. وأرقام هواتفهم، وعناوينهم!!
فى النهاية طلب من السفير ثمن الخيانة.. نصف مليون دولار وجنسية أمريكية!
وأوهمه السفير- كاذبا- بأن كل طلباته سيتم تنفيذها.. وسقط تنظيم «ثورة مصر» فى ساعات معدودة!!
وبدلاً من مكافأته سلم الأمريكيين عصام إلى السلطات المصرية وحوكم وتمت إدانته بالسجن 15 سنة، لكن تم فصله عن باقى أعضاء التنظيم بعد أن «وسم بالخائن» وتمت محاكمة أعضاء التنظيم
«محمود نورالدين السيد على سليمان» ضابط مخابرات سابق قائد التنظيم ومؤسسه.. مهندس خالد جمال عبد الناصر «نجل الزعيم عبد الناصر» اتهم بالتمويل وتهريب السلاح - « د.جمال شوقى عبد الناصر» طبيب استشارى امراض الباطنة والكبد « ابن شقيق الزعيم عبد الناصر»- د.شريف حسين محمود الشافعي» نجل المرحوم حسين الشافعى نائب رئيس الجمهورية الأسبق» - محيى الدين عدلى رجب- أحمد على محمد علي- نظمى حسين سيد أحمد- محمد على شرف الدين- سامح عبد الفتاح أحمد ترك- حمال عبد الخفيظ عبد الرحمن- حامد محمد إبراهيم مصطفى- ممدوح عدلى محمد رجب- إسماعيل عبدالمنعم اسماعيل معوض- أحمد ابراهيم أحمد محمد- اسماعيل جمال الدين السيد عزام- حمدى عبدالغفار على المراغي- مختار عبد الحميد محمد يوسف- محمود محمد يوسف جمعة- أسامة احمد محمد خليل».
وشملت التهم الموجهة إليهم: «القيام بأنشطة عرضت علاقات البلاد بالحكومات الأجنبية للخطر- اغتيال دبلوماسى إسرائيلى فى المعادى فى 4 يونيه 1984- قتل دبلوماسى إسرائيلى فى 20 أغسطس 1985- الهجوم ضد السرادق الإسرائيلى فى معرض القاهرة التجارى عام 1986- اغتيال الملحق الثقافى الإسرائيلى وجرح اثنين من رفقاء وزير السياحة الإسرائيلى الذى كان يزور السرادق- محاولة اغتيال دبلوماسى أمريكى فى 26 مايو 1987م».
وكانت حصيلة العمليات: قتيلين إسرائيليين، وستة جرحى إسرائيليين، واثنين أمريكيين.
وحوكم المتهمون، وبينهم «خالد عبد الناصر» الذى كان خارج البلاد فى ذلك الوقت وحوكم غيابيا بتهم بتمويل المجموعة وتجهيز الأسلحة، لكن تمت تبرئته وأربعة آخرين.. والسجن لمدد متفاوتة للباقين كان أشدها ل»نورالدين 25 عاماً».
وتم تصوير المتهمين خلال المحاكمة كإرهابيين ومدمنى مخدرات!!
أثناء محاكمته جلس واضعا قدما على قدم ممسكاً بمسبحة، وعيناه تنطق بالقوة والاعتزاز بالنفس والكرامة والكبرياء، لهما هيبة لايمكن ان تخطئها عيناك، ورهبة لا تغفل ابدأ.. كان فى أناقة الهيبة والبهاء يرتدى أفخر الثياب كأنه فى حفل ملكي، تتلألأ وردة حمراء فى عروة الجاكيت.. ظلت فى مكانها على القلب حتى الممات.. فسرها الكثيرون بأنها جزء من حالة الشياكة التى تميز بها، لكنه أكد: «أنها وردة الموت حينما يكون الموت حياة وشرفا، فهى بلون الدم الذى يراق تضحية وفداء، والذى يسفك ثأرا للأرض، والعرض، والأجيال».. والرسالة التى بعثت بها الوردة تقول: «الأرواح على الأكف، والوطن فوق الأكتاف، وآيات الشرف تكلل الهامات».
ورفض المخلوع «حسنى مبارك» الإفراج عنه رغم تدهور حالته الصحية جراء الحمي، وبعد رفض سلطات السجن تحويله إلى مستشفى متخصص لإخضاعه لفحوص مدققة لا يمكن أن تجرى فى مستشفى السجن- طبقا لبيان أصدرته المنظمة المصرية لحقوق الإنسان- بينما أفرج فى نفس الوقت عن جواسيس إسرائيل!!
وكان الجاسوس الصهيوني «عزام عزام» سببا فى نقل سجناء «ثورة مصر» إلى سجن آخر بعد أربع سنوات فى سجن «الملحق» ثم ست سنوات فى ليمان طرة وكانت كلها فى حبس انفرادى فى زنازين صغيرة قاسية جدا.
وحسب تعبير نورالدين نفسه: «من المعروف أنه لا يجتمع أبدا فى مكان واحد - حتى لو كان السجن والأقفال والأبواب الحديدية- جاسوس إسرائيلى وتنظيم «ثورة مصر»، ولو ظل هنا كنت قتلته بأى طريقة وبأى وسيلة.. مصر غالية عندى جدا وأطهر من أن يدنسها الكلاب وأنا على قهرهم قادر مهما كان الثمن غاليا وغليظا».
بل وتمادى «نظام المخلوع مبارك» وإعلامه فى تشويه صورته بأنه مدمن وتاجر هيروين، وزير نساء.. الأمر الذى نفته تماماً مطلقته السيدة «نادية حسن يسري» وأكدت أنهما عاشا قصة حب منذ كانت تلميذة بالمرحلة الإعدادية وتقدم للزواج منها عام 1961م إلا أنها أجلت الاقتران به حتى حصلت على بكالوريوس الاقتصاد والعلوم السياسية عام 1967م وحصل «نور الدين» فى العام نفسه من لندن على بكالوريوس إدارة الأعمال.. ووصفته بالإنسان المستقيم الذى عاش من أجل خدمة وطنه، وأنها لم تنفصل عنه رغم الافتراق لأن حبه مازال يعيش فى قلبها.
وفى زنزانته التى حرمت أوامر مصلحة السجون زيارتها ثلاثة مجسمات خشبية للقدس الشريف من تصميمه عبارة عن: صندوق مستطيل مضاء من الداخل ويظهر فى الوجه نقش المسجد الأقصى متعدد الألوان- يسمى فن الأركت - يلتف حول المسجد جنزير حديدى غليظ وقفل عبارة عن نجمة داود رمز الصهاينة، ومكتوب تحت المشهد الحزين الآية الكريمة: «لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود و الذين أشركوا» ونورالدين يجلس خلف المنضدة المتواضعة خلف مجسمات القدس المعلقة على الحائط، المضاءة فى مشهد جليل، وإلى يمينه مكتبته العامرة بكتب السياسة، والأدب، والتصوف، والفقه الإسلامى وجوارها كتاب الله الكريم، وكان نورالدين قد حفظ الكثير من سور القرآن أثناء فترة سجنه.
المفاجأة أنه اتفق مع ورشة السجن لصنع 100 مجسم للقدس، لإهدائها لرموز العمل الوطنى فى مصر، كوصية منه لهم جميعا، والعمل على تقييم رمز «القدس» ليتصدر الصحف والمجلات المصرية والعربية والإسلامية والعالمية إلى أن يعود ويتحرر من أيدى الصهاينة.
والمجسمات الثلاثة، بالإضافة إلى رابع انتهت منه الورشة حسب تعليماته قد أهداها إلي: «المهندس إبراهيم شكرى رئيس حزب العمل، و للأستاذ عادل حسين نائب رئيس الحزب، والثالث للأستاذ مجدى أحمد حسين رئيس تحرير صحيفة الشعب، والرابع للكاتب الصحفى محمد هلال» وكتب بخط يده أسفل كل لوحة: إهداء من محمود نورالدين.
ولقى ربه خلف قضبان سجن طرة بعد مضى 11عاماً من مدة عقوبته فى حبس انفرادي..
رحم الله نورالدين فلم يمهله القدر حتى يتم العدد الذى انتوى إهداءه إلى رموز العمل الوطنى فى بلادنا من مجسم القدس السليب.
فى 16 سبتمبر 1998 شيع جثمانه فى وداع مهيب عشية الذكرى العشرين لاتفاقيات كامب ديفيد التى أقسم على محاربتها.
من مقولاته: «صدور الصهاينة.. أولى بكل رصاصة».
ورغم الحضور الأمنى المكثف، هتف المشيعون بهتافات معادية لإسرائيل وأحرقوا العلم الصهيونى خلال الجنازة.
صديقى المرحوم «عطية حسن» صرخ فى رثائه: «الخلود للبطل.. مش للغواني، واللصوص، وتجار الحشيش.. كان فى عشقه للبلد من أخلص الدراويش.. اللى ضحكت بين صوابعها كتيرالبندقية.. وكانت أد جيش؟! معقول يكون الفجر ف عينيه الجميلة مش حيطلع مرة تانية ولا يغنيش؟!
معقولة نور الدين انطفا ف لعبة طيش؟! مات البطل.. لكن البطولة تعيش».
وكما قال الزعيم «جمال عبدالناصر»: إن الشعوب العظيمة لا تعتبر الأبطال من شهدائها مجرد ذكري.. وإنما تعتبرهم معالم على طريق انتصاراتها