يعتبر طول العمر أمرا وراثيا، إلا أنه ليس تركيبا جينيا معينا يضمن لكم مقاومة الأمراض المختلفة التي قد تتعرضون لها. كما أن أسلوب العيش وراثي أيضا، فالعادات المرتبطة بالأكل أو الحركة التي نتربى عليها منذ نعومة أظفارنا، تلازمنا في غالب الأحيان خلال مسيرة حياتنا. لكن هناك شيء آخر يساهم أيضا في طول الحياة، حيث يعتقد الاختصاصيون أنه وراثي أيضا إلى حد ما: أي الذكاء، ومنهم آيان ديري مدير مركز علم الأوبئة الإدراكي في جامعة إدينبيرغ الذي نشر مقالة علمية في هذا المجال نشرتها مجلة نيتشور المتخصصة. أكدت دراسة نشرت خلال العام 1992 في مجلة «بيرسوناليتي أند أنديفيدجيوال ديفيرنسز» وجود ارتباط دامغ بين الذكاء وطول الحياة، واعتمدت في ذلك على اختبارات لنسبة الذكاء خضع لها الجنود الأستراليون الذين كانوا يتطوعون في الحرب الفيتنامية. واعتمد آيان ديري في دراسته على كثير من المعلومات القديمة، وكانت بحوزته اختبارات الذكاء التي خضع لها 2700 شخص ولدوا في العام 1921 بمنطقة أبردين في اسكتلاندا، وأصبحوا في الحادية عشرة وقت الدراسة. وتبين له أن الأطفال الذين كانوا يملكون 15 نقطة أقل، كانت لديهم فرصة أقل بمعدل الخُمس ليعيشوا حتى سن السادسة والسبعين «حتى أن هؤلاء الذين حققوا 30 نقطة أقل كانت لديهم امكانية أقل من %37 لأن يتمكنوا من الاحتفال بعيد ميلادهم السادس والسبعين، مقارنة بأبناء جيلهم الأذكى» كما كتب آيان ديري في دراسة نُشرت خلال العام 2011 في مجلة «بريتيش ميديكال جورنال». وقد توصل هذا الخبير الى نتيجة مماثلة بعد بضعة أعوام مع مجموعة أخرى من اسكتلاندا، وهذه المرة ارتبط الأمر بأكثر من ألف شخص ولدوا خلال العام 1936. فالأشخاص الذين احتلوا النصف الأسفل من الترتيب المحدد وفق ارتفاع معدل الذكاء (الذي تم قياسه خلال فترة الطفولة)، تمتعوا بفرصة أقل بمعدل الضعف لكي يحيوا حتى سن السبعين مقارنة بالنصف الأعلى من الترتيب. ولا شك في أن أسباب ذلك متعددة، إلا أن أكثرها منطقية يبدو التفسير الذي يفيد بأن الأذكياء يهتمون بأنفسهم بشكل أفضل: يأكلون بشكل صحي، يمارسون الرياضة أكثر من غيرهم، يدخنون ويشربون الخمر بنسبة أقل. كما أنهم يزورون الطبيب بشكل متكرر بهدف إجراء الفحص الوقائي، لأن لديهم تصورا أفضل عن تبعات إهمال الرعاية الصحية. الأمر الآخر المهم يتمثل في أن الناس الذين يتمتعون بنسبة ذكاء أعلى يحصلون عادة على تعليم أعلى، وبالتالي يمارسون أعمالا لا تتطلب جهدا جسديا كبيرا ولا تكون مضرة. كما أنهم يجنون مبالغ أكبر من الأموال، لذلك يمكنهم العيش في ظروف اجتماعية أفضل أو شراء المواد الغذائية الصحية. وركز ديري في بحوثه أيضا على تأثير الظروف المختلفة أثناء نمو الجنين في وضعه الصحي اللاحق وذكائه. ولم تأت بحوثه تلك بنتائج مفاجئة، حيث تفيد بأن التوتر والصدمات وشرب الخمور أو غيرها من المخدرات خلال فترة الحمل يلقي بآثار سلبية على الطفل حتما. هذا يعني بأن من كان ينعم في رحم والدته بظروف أفضل، سيولد حتما بنسبة ذكاء أعلى وسيعيش بالتالي لفترة أطول- حسب اختبارات ديري طبعا. الناس الأذكياء يعيشون بشكل أصح أكد بحث أجري أخيرا بين الجنود الأميركيين مسألة وجود ارتباط بين نسبة الذكاء المرتفعة والرغبة الأعلى بممارسة نظام حياتي صحي. فقد تبيّن للعلماء بأن لدى الأشخاص الأذكياء معدلا قليلا باحتمال أن ينمو لديهم أثناء العمر الوسطي ما يعرف بظاهرة الأيض Metabolic Syndrome، أي الحالة التي تتمازج فيها الظواهر السلبية مثل السُمنة وارتفاع ضغط الدم أو مرض السكري. وقد جاءت العالمة الأميركية ديبي لولور من جامعة بريستول بإشارات بارتباطات أخرى، تفيد بأن الأشخاص الأذكياء يتمتعون بصحة أفضل. فقد أجرت بحثا على 11 ألف شخص وقارنت بين نسبة ذكائهم وعدد الحوادث التي يتعرضون لها. وتبيّن لها أن الذين حققوا خلال فترة نموهم نسبة ذكاء أعلى (أثناء خضوعهم للبحث)، كانوا خلال بلوغهم مرحلة النضج أقل تعرضا للحوادث المختلفة التي قد تتطلب بقاءهم في المستشفى. دور التعليم ما سبق ذكره يسري بالطبع على الشعوب من كل أرجاء الكرة الأرضية، ويشير الى أن ثمة رابطا حقيقيا بين طول الحياة ومعدل الذكاء أو التعليم. وهذا الأمر أكدته على سبيل المثال دراسة أخرى تخصصت في البيئة التشيكية وأجرتها ييتكا ريختارجيكوفا من قسم الديمغرافيا والجيوديمغرافيا التابعة لكلية العلوم الطبيعية بجامعة كارل. وقد اعتمدت تلك الدراسة على معطيات قدمها معهد الإحصاء حول الأشخاص المتوفين في الجمهورية التشيكية بين الأعوام 2002 و2008، وأضيفت إليها معلومات حول المواطنين الذين لا يزالون على قيد الحياة. وقد تبين من الحسابات التي كانت تظهر العمر، الجنس والمعدل التعليمي، أن من يبلغ عمره الآن خمسة وعشرين عاما لديه أمل بأن يعيش في المعدل 60 عاما أخرى، في حين سيعيش ابن جيله الذي لا يملك سوى معدل تعليم أساسي 42 عاما أخرى فقط. إلا أن النساء اللواتي يملكن معدل تعليم أساسي يتمتعن بفرصة للعيش 55 عاما أخرى، والنساء من حملة الشهادات الجامعية 65 عاما، وهو ما يرتبط بعدم قيامهن بأعمال شاقة تتطلب جهدا جسديا، ولأنهن يعشن كما هو معروف لفترة أطول من الرجال. وحسب ما يفيد التصور العام المتداول، فإن الأشخاص الذين يتبوأون مراكز إدارية، والحاصلين طبعا على معدل تعليمي أعلى، يعملون أكثر في جو مليء بالتوتر، ولذلك فأنهم يعانون بشكل مستمر مما يعرف بالأمراض الحضارية المختلفة. إلا أن ذلك لا يعني حسب العالمة التشيكية أن هؤلاء سيموتون في وقت أبكر: «تفيد المعطيات المحلية وكذلك الدولية المختلفة بأن هؤلاء الأشخاص يعيشون في المعدل أطول من الأشخاص الحاصلين على التعليم الأساسي أو المتوسط»، كما تزعم ريختارجيكوفا. وبذلك يمكن القول بقليل من المبالغة والدعابة، بأن الدواء الذي يمكنه أن يوفر لكم طول العمر هو بسيط ومفاجئ معا: فيكفي أن يتعلم المرء بشكل جيد.