بصراحة شديدة ومؤسفة تشير كل الشواهد المتوفرة عن حملة انتخابات الرئاسة المقبلة إلى أن مصر تسير إلى الخلف وتتراجع بوضوح، وبالرغم من ذلك فهناك صخب فى الصحف والتليفزيون يريد أن يهيئ للناس أننا نسير إلى الأمام بل وأننا بسبيلنا إلى انتخابات غير مسبوقة من حيث أجواء الحرية والتنافس والنزاهة التى ستجرى فى ظلها، وهو مالا يوجد دليل واحد عليه. ** أول الشواهد أنه لا يوجد إلا مرشحين اثنين فقط يتنافسان فيها هما عبد الفتاح السيسى وحمدين صباحى، أما الثالث مرتضى منصور فلا يلوح فى الأفق أن لديه أية فرصة لكى يجمع العدد اللازم من التأييدات الشعبية حتى تقبل أوراقه. ولعلنا نتذكر أنه فى الجولة الأولى لانتخابات الرئاسة السابقة مايو 2012، شارك فيها ثمانية مرشحين يمثلون مختلف ألوان الطيف السياسى فى البلاد، ولم تكن هناك هيمنة مطلقة لأى من المرشحين على أجواء المعركة الانتخابية وهذا حفز الشعب على الاهتمام بتلك الانتخابات والاهتمام بالذهاب للجان الاقتراع للتصويت ولم يكن هناك أحد يعلم بمن سيفوز، ويكفى أن نتذكر أن استطلاعات الرأى ملأت الصحف فى ذلك الوقت وغطت تطور السباق الرئاسى بل ولأول مرة شعر الناس فى مصر أن هناك انتخابات حقيقية. الآن لا يوجد شيء من هذا. فأقوى تيار سياسى فى المجتمع يقبع فى السجون أو رهن الملاحقة البوليسية وهناك دعاوى قضائية مشبوهة استصدرت احكاما قضائية جائرة من محاكم غير مختصة تقضى بحرمان أعضاء هذا التيار من خوض الانتخابات. وأصبح السيد عبد الفتاح السيسى ممثل المؤسسة العسكرية هو المهيمن على كل الأجواء الانتخابية نتيجة الغياب الكامل لكل الأحزاب السياسية عن المسرح المصرى والكل يتحدث عن أن السيسى هو الفائز فى الانتخابات وأن هذا أمر مفروغ منه ولا يجرؤ أحد على تصور حالة واحدة يمكن لحمدين أن يفوز بها. فى هذا الجو غاب عن الورق الذى قدمه السيسى إلى لجنة الانتخابات إقرار ذمته المالية، كما لو أن هذا الإقرار لن يقدم إلا بعد فوزه بالرئاسة، فى حين أنه يجب الإعلان عن الذمة المالية للمرشح منذ اللحظة التى يكشف فيها عن نيته الترشح، وهذا ما يحدث فى كل بلاد العالم المحترمة. وبالرغم من ذلك لم يتساءل أحد عن مصادر تمويل حملة السيسى ومن الذى يملأ كل الشوارع والمدن والقرى؟ هل هم رجال أعمال؟ وما مصلحتهم؟ والمقابل الذى سيحصلون عليه؟ أم أنهم العاملون بالقطاع المدنى الاقتصادى للقوات المسلحة؟ أم أجهزة الدولة ذاتها التى قدمت رأس محافظ الوادى الجديد ككبش فداء لتدارى به انحيازها؟ وأخذ البعض يتحدثون عن ضرورة اختيار رجل من خلفية عسكرية ليرأس البلاد لأن مصر لن ينصلح حالها إلا بذلك. ** الشاهد الثانى أنه لا توجد منافسة حقيقية فى انتخابات الرئاسة المقبلة، فهذه الحملة منظورا إليها من جانب معسكر حمدين صباحى تبدو وكأنها أقرب ما يكون إلى منفذى العمليات الانتحارية الذين يعلمون جيدا أن أجسادهم ستتمزق أشلاء وأن القضية التى يعتقدون أنهم يدافعون عنها لن تستفيد أى شيء، والأمل الوحيد المطروح أمامهم هو تحسين ظروف الهزيمة. لنقارن فقط بين أرقام وثائق التأييد التى حصل كل من السيسى وصباحى عليها، فالسيسى نجح بكل سهولة فى تسليم لجنة الانتخابات 190 ألف استمارة تأييد، فى حين أن صباحى لم ينجح فى جمع 25 ألف إلا بعد جهد جهيد وهذا يعنى أن تأييد الأول أكثر من سبع مرات، فإذا صدقنا حملة السيسى من أن لديهم أكثر من 405 آلاف وثيقة تأييد فإن هذا يعنى أن مقابل كل صوت يحصل عليه صباحى سيكون السيسى حصل على أكثر من 16 صوتا فأين هى المنافسة أو الندية بين الاثنين؟ لاحظ فقط أن الانتخابات الرئاسية السابقة فاز مرسى على شفيق بفارق لا يزيد عن 3% من الأصوات. هذه المقارنة بين السيسى وصباحى تعود بنا مباشرة إلى آخر انتخابات رئاسية فى عهد مبارك حينما فاز مبارك بأكثر من سبعة ملايين صوت بينما لم يحصل أقرب منافسيه على أكثر من نصف مليون صوت. ونعنى بذلك أن هذه الفوارق فى الأصوات لا تكون فى ظل ظروف ديمقراطية. ** الشاهد الثالث أن هذه الحملة تخلو تماما من كل سياسة فليس هناك أى أحزاب سياسية لها ثقل أو وزن جماهيرى تقف وراء أى من طرفى السباق والأغلب أن السيسى بعد الانتخابات المقبلة سيفعل مثل عبدالناصر والسادات ويشكل حزبا سياسيا ينحصر هدف أعضائه فى تأييده والترويج لسياساته وليس نقده أو معارضته، وهكذا ستستعيد الدولة المصرية ظاهرة المسئولين السياسيين الذين يعتمدون فى قيمتهم أو وزنهم السياسي على موقعهم منه قربا أو بعدا، كما سيسترد السيسى صفة "القيادة السياسية" التى اعتادت أجهزة الدولة أن تطلقها على رئيس الجمهورية. وهكذا فإن الأحزاب السياسية والحياة السياسية ستصاب بضربة قاضية وسيؤدى هذا إلى موت السياسة وتصبح السياسة مجرد ثرثرة على المقاهى والمصاطب وعاجزة عن التأثير فى سياسات الدولة أو تغيير الحكومات.. أى مجرد فضفضة.