-25- وشعرت عفاف بأن الدنيا بدأت تبتسم لها من جديد ، وأن عينها لم تعد مكسورة .. وأن أحداً لن يستطيع أن يشمت فيها أو يعايرها أو يسمم بدنها بالكلام عن "بيت العدل " وتقدم السن .. ووحدة الغربة فى القاهرة .. وأحست بالامتنان الشديد لكنعان .. وقررت ألا تخونه ، مهما ألحت عليها طبيعتها المتمردة ، أو طاردتها هواجسها الجنسية الشبقة .. ستقاوم رغبتها المجنونة فى أى رجل .. وستعيش زوجة وفية مخلصة .. بل ولماذا لا تقوم هى الأخرى برحلة عمرة مع كنعان .. تستطيع أن تقنعه بذلك ، فهو متدين بالفطرة ، رغم نزعته التحررية .. ورغم أنه لايصلى ويشرب الخمور فى حفلات السفارة .. لتجرب هذا الإحساس .. لعل الموضوع يكون بجد .. ولعل هناك رب .. ستذهب لترى الكعبة وترى بماذا ستشعر .. لقد دخلت من قبل مسجد سيدنا الحسين .. وأحست بالفعل بشئ ما يموج فى صدرها ..وزارت مع والدتها وزوجة أخيها ضريح السيدة نفسية وخرجت مرتاحة وغير مهمومة ، كما اعتادت دائماً أن تكون ، حتى ولو لم يكن هناك ما يشغل بالها أو ينغص عليها عيشتها ..ثم إنها جربت أن تصوم بعض الأيام فى رمضان كما يفعل والدها من قبيل التضامن الاجتماعى مع الناس .. وذاقت طعم السعادة التي يشعر بها الصائم الظمآن ساعة الافطار ، حين يشرب أول رشفة ماء ويدخن أول سيجارة . ولم تمض ثلاثة شهور من زواجها بكنعان ، حتى بدأت تشعر بأعراض الحمل .. وطارت من الفرحة .. الآن ستصبح أماً .. وأجلت مشروع العمل فى الصحف الخاصة والفضائيات حتى لا ترهق نفسها ، وتؤثر على حملها ، رغم أن كنعان كان لا ينفق سوى القليل جداً من المال على البيت .. وكأن هناك اتفاق غير مكتوب بينهما على أن يتحمل كل منهما مسئولية نفسه .. وقد تصارحا بذلك بالفعل حين فاتحها فى الزواج .. وقالت له إنها تعرف ظروفه ، ولن تكون عبئاً إضافياً عليه .. ولا تريد منه سوى حفل زفاف كبير يليق بهما ، ولن تطالبه بعد ذلك بشئ .. وكان لها ما أرادت . وطبق كنعان الاتفاق بحذافيره ، فلم يكن يعطيها أول كل شهر سوى مبلغ زهيد لا يكفى ثمن سجائرها التى تدخن منها ثلاثة علب فى اليوم الواحد.. ومن أغلى نوع أجنبى من السجائر .. وكان يفاجئها بين وقت وآخر بهدية رمزية ، ويأتى من رحلته إلى الأردن في بعض الأحيان محملاً ببعض الهدايا البسيطة لوالديها ، وشقيقها ،وزوجته وولديه ..وبعد علمها بخبر الحمل ، جاهدت للتخفيف من التدخين حتى لا يولد الجنين مشوهاً .. وقضت شهور الحمل فى آلام متواصلة بسبب تجاوزها سن الخصوبة ، والآلام القديمة التى كانت تعانى منها فى فقراتها القطنية .. لكنها كانت حمولة وصبورة .. وهان أمامها أى ألم فى سبيل تحقق حلمها بالأمومة ، وولدت طفلاً صحيحاً معافى أخذ منها لون عينيها فقط ..وورث عن أبيه بياضه الشاهق .. واستشعرت رغم الضيق المادى الذى تعانى منه بعد ولادة الطفل وزيادة مصروفات البيت بأن الدنيا قد دانت لها. وشعرت لأول مرة فى حياتها بمعنى الهدوء والاستقرار..وأحبت البيت وعرفت معنى الإخلاص لرجل واحد .. تعلمت كيف تكبت رغباتها ، وأصبحت تجيد السيطرة على عينيها الزائغتين ، وكبح جماح ضعفها أمام الوسامة والفحولة ، وشبقها القديم نحو أصحاب البشرة الداكنة. لكن هذا الاستقرار الأسرى والنفسى لم يستمر طويلا.. فقد دخل عليها "كنعان " ذات يوم ، وهو يكاد يطير من الفرحة لأنهم اختاروه للعمل مساعداً لوزير الخارجية فى بلاده ، وحكى لها كيف أنه كان ينتظر هذا اليوم منذ زمن طويل ، ويسعى له ، ويربط شبكة علاقاته ومصالحه لتحقيقه والفوز به .. ويعتبره خطوة مهمة للوصول إلى مقعد الوزارة الذى يحلم به ويتمناه .. وبقدر فرحة عفاف بارتقاء زوجها فى عمله ، واقترابه من مقاعد الحكم .. بقدر ما شعرت بالقلق والحزن لأن "كنعان" سيعيش مرة أخرى فى الأردن ، وسيتركها وحدها فى مصر ، لتجرب من جديد معانى الوحدة والغربة. وهو بالتأكيد سيأتى لزيارتها ، لكنها ستكون زيارات بعيدة ومتقطعة ، كتلك التى يقوم بها لزوجته الأولى منذ أن تزوج من سلوى .. وفهم "كنعان" على الفور ما يدور فى رأس زوجته ، وحاول بكل الطرق أن يطمئنها ويهدئ من روعها .. بل وعرض عليها ، وهو غير جاد فى كلامه بالطبع ، أن تأتى لتعيش معه فى الأردن .. أما السبب في عدم جديته في هذا العرض ،فهو علمه اليقيني بحساسية وضعه الجديد ، ومدى الحرج الذى يمكن أن يسببه له اصطحابه لزوجته المصرية لتعيش معه إلى جانب زوجته الأردنية، خاصة وهو لا يدرى ماذا يمكن أن يكون عليه رد فعلها ، لو علمت بخبر زواجه عليها ، وهو الأمر الذى حرص حتى الآن على ألا تعرفه، وشعر بأنه محظوظ لأن أنباء نشر صوره وخبر زواجه في صحف القاهرة لم يصل زوجته الاولى ولم تسمع بهأو تعرف به أسرتها ، فلم يكن يضمن ابدا رد فعل عائلتها الثرية النافذة الى دوائر الحكم والسلطة في بلاده ..وكان يعرف أن أحدا لن يقف معه أو يدافع عنه.. فزوجته لايعيبها شىء ..مال وجمال ونسب عريق .. فلماذا يتزوج عليها ؟ .. ولذلك فقد كان عرض كنعان لعفاف بالسفر والاستقرار معه في الأردن من باب عزومة المراكبية .. ولذلك فقد ارتاح بينه وبين نفسه، وان كان قد قاوم حتى لا يظهر ارتياحه هذا على وجهه حين كان ردها السريع والتلقائى على عرضه هو الرفض .. فهى لا تستطيع أن تترك عملها وطموحها ، حتى ولو كانت فى حكم "المجمدة" .. فأوضاعها الصحفية ستتغير وتعود كما كانت بالتأكيد وهى مصرة على ذلك..وليس لديها استعداد لكى تتخلى عن طموحها وأحلامها . وسافر "كنعان" إلى العاصمة عّمان .. وحدثها هاتفياً بمجرد وصوله إلى المطار ليطمئن عليها وعلى طفله الوليد .. وظل يطلبها يومياً على "الموبايل " طوال الشهور الثلاثة التى غابها عنها قبل أن يحصل على إجازة لمدة أسبوع بأعجوبة ، ويأتى لزيارتها ، متعللاً لزوجته بأنه ذاهب فى مهمة عمل إلى مصر. -25- وبدأت عفاف تضيق بسرعة من الوحدة والملل بسبب غياب كنعان شبه الدائم عن المنزل ، وأصبحت تهمل كثيراً فى حق الطفل الرضيع وتتركه معظم الوقت للمربية .. وتقضى معظم يومها بين الجريدة ، واسترجاع صداقاتها وعلاقاتها القديمة ، وتجديد الاتصال بمصادرها الصحفية ، حتى لاينسوها بسبب توقفها عن العمل والكتابة . وكانت تذهب بين وقت وآخر إلى مقر الحزب فى وسط البلد ، لتحضر ندوة أو تساعد الرفقاء فى الإعداد للمؤتمر العام للحزب ، فقد ظلت "كادراً" مؤثرا، وابنة من بنات الحزب رغم انشغالها بالصحافة وحياتها الخاصة .. وهناك التقت من جديد بأصدقاء الجامعة ، ورفقاء الحزب الشيوعى السري -تحت الأرض- وحين عرضوا عليها الترشيح لمجلس نقابة الصحفيين أحست بالفرحة والفخر ، وأن اسمها الذى صنعته فى مهنة صاحبة الجلالة يؤهلها للدخول فى منافسة شرسة مع محترفى الانتخابات من كافة التيارات .. وبدأت فى تكوين فرقة عمل تخطط لها حملتها الانتخابية .. وحصلت من النقابة على قائمة كاملة بعناوين وتليفونات الصحفيين ، وعناوين إميلاتهم على الإنترنت .. وأعدت برنامجاً انتخابياً ركزت فيه على الأجور المتدنية للصحفيين وضرورة المطالبة بكادر خاص لهم ، أسوة بالمعلمين وأعضاء سلك النيابة والقضاء .. وبدأت تقوم بجولات يومية على المؤسسات الصحفية القومية والخاصة ، اكتشفت من خلالها أنها معروفة جيداً فى الوسط الصحفى ، بصورة لم تكن تتوقعها .. وفوجئت بأن بعض المحررات المتدربات يحتفظن بموضوعاتها الصحفية فى أرشيفهن ليتعلمن منها.. وإحداهن طلبت منها أن تكتب لها إهداءاً على الكتاب الوحيد الذى أصدرته عن كواليس وأسرار رحلاتها ومغامراتها فى أفغانستان بعنوان : "حكايتى مع طالبان" . وسارت الأمور بشكل هادئ وكما خططت له بالضبط، حتى وجدت نفسها فجأة فى إحدى جولاتها على الصحف أمام عشيقها القديم "عز" .. وعرفت أنه يعمل فى قسم "الديسك" المركزى فى جريدة قومية جديدة بمكافأة معقولة ..وأنه ترك المكتب العربى الذى كان يعمل به بعد تغيير مدير المكتب ، والخلافات الشديدة التى حدثت بينه وبين المدير الجديد .. وعقدت المفاجأة لسانهما .. وحاولت عفاف أن تتخلص من الموقف بذكاء ، فصافحت "عز" بحرارة .. وقالت لمدير تحرير الجريدة الذى صاحبها فى الجولة للقاء المحررين ورؤساء الأقسام .. إن "عز" هذا هو استاذها الذى علمها الصحافة وأنها تدين له بفضل كبير .. ونجحت الحيلة فى أن تلجم لسان عز الذى كان فى يوم ما ثائراً وصار الآن داجناً ومدجناً ،ويبحث عن لقمة العيش حتى ولو كانت فى صحيفة تنطق بلسان الأسياد الجدد .. وتركت عفاف بطاقة التعريف الخاصة بها وعليها كل أرقام تليفوناتها لجميع الزملاء فى الجريدة ، وطلبت مساندتهم لها فى الانتخابات .. ولم تمض ساعات قليلة على خروجها من جريدة "عز" الجديدة ، حتى وجدته يحدثها على رقم الموبايل المكتوب على "الكارت" ، ويطلب لقاءها حالاً وبسرعة لأن لديه كلام كثير يريد أن يقوله لها .. وحاولت عفاف التنصل منه فى البداية .. لكنها وافقت تحت إلحاحه على أن يكون اللقاء فى كازينو قصر النيل الذى اعتادا اللقاء به في الأيام الخوالى . وبدا "عز" خلال اللقاء وكأنه يضمر شيئاً لا تدرى ما هو.. ويحاول أن يقنعها بأنه رفض أن يكون مخلب قط ضدها بعد أن قطعت علاقتها به ، وأن زملاء لها يعرفون علاقتهما حاولوا استخدامه لتشويه سمعتها ، لكنه رفض أن يستجيب لهم ، لأنه يحبها وسيظل يحبها ولن يحب سواها .. وحين تمادى فى كلمات الهيام .. حاولت تذكيره بأنها سيدة متزوجة من رجل محترم ولديها طفل .. وأنها وافقت على لقائه فقط لأنه ألح عليها بشدة وأفهمها أنه يريد أن يخبرها بشئ مهم .. ولم ييأس "عز" ، ولم يتراجع .. والحقيقة أنه لم يكن كاذباً فقد أحبها بالفعل ، ولم يستطع أن ينسى أبداً العامين اللذين عاشتهما معه فى المنيل زوجاً وزوجة .. وإن كان بدون ورقة ولا مأذون .. ولم تبالغ عفاف هى الأخرى فى صده .. فقد كانت تعرف جيداً عمق علاقاته بزملائه فى المهنة ، وخاصة اليساريين والناصريين منهم ، وتعلم مدى حبهم له ، وثقتهم فيه ، لذلك فقد حاولت استغلال الموقف بسرعة ، وطالبته بأن يساندها فى الانتخابات ، ويصاحبها فى بعض جولاتها على المؤسسات الصحفية ..ولم يضع "عز" الفرصة ، فقد كان يفهمها جيداً ، ويعلم أنها يمكن أن تفعل أى شئ من أجل تحقيق مصلحتها ، وأن الوقار المصطنع والإخلاص الوهمى الوقتى الذى تبديه له ، تجاه زوجها ، سرعان ما سينهار أمام الرغبة والمصلحة ، خصوصاً بعد أن عرف ان الزوج مستقر فى الأردن ، ولا يزورها إلا أيام قليلة كل فترة .. وأحس أن الطريق ممهد أمامه لكى يستعيد علاقتها به ، وينهل من جديد حتى الثمالة من كأس المتعة الخالصة التى كانت تشعره بها ، ولم يتذوق حلاوتها وحرارتها مع أى امرأة أخرى عرفها .. وهى الآن كما كانت منذ سنوات .. ناضجة ومفعمة بالرغبة الشبقية المحرقة .. وقناع البراءة الذى تضعه على وجهها لن ينطلى عليه ، فعيونها تفضحها ، وحركة ساقيها ونظراتها إليه من خلف النظارة الطبية التى أصبحت ترتديها مؤخراً تشى بأنها ترغب فيه كما يرغب فيها ، وربما أكثر .. وأن المسألة لا تحتاج إلى عناء كبير .. وسألها عن حملتها الانتخابية وإلى أين وصلت فيها .. وقال لها إنها تحتاج لإجراء اتصالات سريعة بمعظم أعضاء النقابة لتذكرهم بنفسها .. وأنه مستعد لكى يقوم بنفسه عنها بجزء كبير من هذه الاتصالات ، لكنه يحتاج إلى تليفون ثابت لأن "الموبايل" لن يسعفه للاتصال بمئات الزملاء .. وفهمت الرسالة على الفور .. واعتذرت عن عدم قدرتها على استقباله فى شقتها ، لأنها لا تستقبل رجالاً عندها فى غياب زوجها.. ولأن المربية تقيم معها فى الشقة .. ورفضت كذلك فكرة الذهاب إلى شقة المنيل .. ---وسألته بتحدى: إنت عايز إيه يا عز .. قولها بصراحة .. انا فاهماك كويس ياحبيبى .. عفاف بتاعة زمان خلاص راحت وراح زمانها .. وأنت الآن بالنسبة لى مجرد صديق زميل أعتز به .. واوعى تفتكر إنك علشان ممكن تساعدنى فى الانتخابات .. يبقى هوافق أنام معاك ..وأخون جوزى وابنى .. إصحى يا جميل وفوق لى شوية ..ولو كنت باقى بجد على أيام جميلة عشناها سوا .. حاول تساعدنى أكون نفسى .. مش مسألة نقابة وانتخابات .. أنا الموضوع ده كله ما يفرقش معايا ، وكفاية إنه خلانى أعرف أنا أد ايه محبوبة ومعروفة فى الوسط الصحفي .. وده بيرضينى جداً وبيحسسنى إن كل التعب اللى أنا تعبته مارحش هدر .. أنا عايزاك تساعدنى ما اخسرش نفسى تانى .. وماخسرش احترامى لذاتى . واستشعر "عز" ربما لأول مرة منذ أن عرف عفاف نبرة صدق فى كلامها .. وأحس أنها لاتمثل عليه ، كما اعتاد منها دائماً .. وأنها تعنى كل كلمة تقولها .. ولا تريد أن تعود إلى الشخصية القديمة التى كانتها.. وبدأ يراجع بينه وبين نفسه يقينه القديم بأن الانسان لا يمكن أبدا أن يتغير .. صحيح أنها لاتزال عنيدة وبراجماتية انتهازية .. ومصاصة دماء .. لكنها تريد أن تبقى شريفة .. وتودع مرحلة المرأة المشاع ، وتخلص لرجل واحد .. وهو يعرف زوجها الدبلوماسى الأردنى .. وسبق أن التقى به فى أكثر من حفل استقبال حضره بالسفارة الأردنية .. واستمع إليه فى أكثر من ندوة .. وحظى باحترامه الشديد .. ولمس بنفسه مدى تهذيبه ونزاهته ونظافه يده .. فمن الواضح أنه لم يكن يستغل عمله كدبلوماسى لتحقيق ثروة ، كما يفعل كثيرون من الدبلوماسيين العرب. وقرر"عز" أن يساعد عشيقته القديمة وحبه الأول والوحيد دون أن ينتظر منها شيئاً على الإطلاق ، ودون أن يأمل فى عودة العلاقة بينهما .. سيساعدها لأنه صدقها .. ولأنه يريد أن يكون لليسار أكثر من مقعد فى مجلس النقابة .. وعفاف عنيدة ومتحدثة ونشيطة ومتحركة .. وستكون لها بالتأكيد بصمة داخل المجلس .. فهى تحب النجاح ولا تطيق الفشل ، وبالتأكيد ستكون إضافة للعمل النقابى ، رغم عدم اقتناعه الكامل بموهبتها الصحفية، وفي خلفيته عنها بالتأكيد فضله الشخصي عليها فيما وصلت اليه من مكانة صحفية ، وهو لا ينسى بالطبع أن معظم الخبطات الصحفية التى صنعت بها اسمها فى الوسط .. هو الذى صاغها بأسلوبه الصحفى الرشيق .. ولولا عناوينه الساخنة ومقدماته المشوقة، لما حققت موضوعاتها الصحفية كل هذا الصدى ، ولما حصلت على تلك الجوائز .. ومع ذلك فهى أفضل من غيرها بكثير .. هى على الأقل جريئة وتحب المهنة ، وتفنى نفسها فيها ، والمجد الذى حققته وإن كان جزء كبير منه مسروق وليس من حقها .. لكنها تستحق النجاح .. وهى ذكية ولماحة وتجيد التعامل مع الناس .. ولتكن عضوة بالمجلس وبدأ "عز" فى دعوة أصدقائه وزملائه للتصويت لها ، ومطالبتهم بأن يفعلوا نفس الشئ مع زملائهم . ونجحت عفاف من جانبها فى "التربيط " مع أقوى المرشحين فى المؤسسة الصحفية التى تعمل بها .. كما نجحت فى إقناعه بأن يكتب اسمها ضمن قائمته .. وهى نفس القائمة التى تدعو لانتخاب النقيب الحكومى .. ولم يجد المرشحون الإخوان هم الآخرون أى غضاضة فى أن يضموها على قائمة مرشحيهم ، كوسيلة للدلالة على عدم اضطهادهم للمرأة وإيمانهم بدورها .. ودحض الانتقادات الموجهة لهم ، وخاصة فيما يتعلق بموقفهم من المرأة والأقباط . وأسفرت عوامل كثيرة أخرى جاءت كلها فى صالح عفاف عن فوزها بعضوية مجلس نقابة الصحفيين وبعدد كبير من الاصوات .. وفى ذروة فرحتها بالخطوة الجديدة على طريق الشهرة والسلطة والمجد .. اكتشفت أكثر من 20 مكالمة لم يرد عليها على تليفونها المحمول من المربية .. فدخلت إحدى غرف النقابة ، هروباً من ضجيج المرشحين والصحفيين الذين أصروا على حضور فرز الأصوات ، وكاميرات الفضائيات وميكروفونات الإذاعات التى جاءت لتغطى هذا الحدث .. وصعقتها المربية حين قالت لها إن الولد تعبان جداً وحرارته مرتفعة للغاية ,, وأن "لبوس " المضاد الحيوى الذى أعطته له لم يفلح فى تخفيض درجة حرارته ، وطالبتها بأن تعود بسرعة إلى البيت لتعرضه على أحد الأطباء . -26- وتركت عفاف كل شئ وجرت لتنقذ إبنها .. وكادت تصطدم في الطريق بالسيارات الاخرى أكثر من مرة بسبب السرعة الجنونية التى كانت تقود بها سيارتها .. وبمجرد وصولها الى المنزل ، اندفعت الى حجرة طفلها ، ووضعت يدها على خده لتستطلع درجة حرارته، فوجدته ساخنا كالخارج من فرن ..واكتشفت أن جسم الولد قد تحول إلى جمرة من النار ، وأن حرارته مرتفعة جداً ولم تفلح الكمادات التى أعدتها له المربية، في إعادة درجة حرارة الطفل الى معدلها الطبيعي أو على الأقل تخفيضها الى ما تحت درجة الخطر، كما لم تنجح الاسعافات الأولية التي حاولت اجراءها له في وقف نزيف حاد من الأنف جعل سرير الطفل كله غارقا في بقع صغيرة من الدم..وطارت عفاف بالرضيع إلى أقرب مستشفى..وما أن وقعت عليه عين الطبيب ،وقاس درجة له الحرارة والضغط، حتى بدأ الرضيع ينزف من جديد من أنفه، ويخرج كل ما في بطنه ممزوجا بشئ له لون غريب، وشك الطبيب في أن الطفل ربما يكون قد ابتلع مادة سامة، أو شرب شيئا ملوثا..وأمرمساعديه بأن يجهزوا غرفة العمليات بأقصى سرعة ممكنة، ليجري له عملية غسيل معدة.. فالولد كان في حالة خطرة للغاية..وهو عاجز تماماً عن التنفس بطريقة طبيعية .. ولونه شاحب شحوب الموت .. واحتد الطبيب على الأم لأنها تأخرت كثيرا في الحضور به الى المستشفى.. وكادت عفاف أن يغمى عليها ، لولا أن المربية سندتها قبل أن تقع على الأرض من فرط الصدمة والرعب على فلذة كبدها الذى تعلم علم اليقين أنه جاءها فى ظرف استثنائى لن يتكرر ، ولن تستطيع تعويضه لوراح منها .. وأخذت تسترجع شريط ذكرياتها .. وأحست بتأنيب شديد للضمير بسبب إهمالها له طوال فترة التحضير لانتخابات نقابة الصحفيين ، لدرجة أنها أحياناً ما كانت تمر عليها أيام كاملة لا تكلمه ولا تداعبه فيها ، حين تعود آخر اليوم متعبة ومرهقة ، فتجده نائماً فى غرفته وبجواره المربية ، فتقبله وتنام . ولم ينقذها من ذكرياتها ولومها لنفسها سوى صوت باب غرفة العمليات ، وهو ينفتح ويخرج منه الطبيب ، وعلى وجهه علامات الحسرة . - وتصرخ عفاف ملتاعة: قل لى يادكتور .. مالك ساكت ليه .. إنطق .. قول .. جرى إيه .. إبنى جرى له إيه .. لا.. لا .. الولد ما.. مات .. لا .. مش ممكن .. وتسقط على أرض الغرفة مغشياً عليها .. وتقضى أسبوعاً كاملاً فى المستشفى بعد أن أصيبت بانهيار عصبى ، وأرادت أن تؤذى نفسها أكثر من مرة ، ورفضت الطعام والشراب .. حتى تحولت إلى شبه هيكل عظمى .. وأصبحت تعيش على المحاليل والمسكنات ، ولاتنام بدون مخدر .. واسودت الدنيا فى وجهها .. وفشلت كل محاولات والدها وأمها فى إقناعها بضرورة إخبار زوجها بما حدث .. وأغلقت تليفونها حتى لا ترد عليه أو على غيره ، وحملته هو الآخر جزءاً من المسئولية بسبب ابتعاده عنها .. وكانت قد اعتادت الحياة بدونه .. وأصبح غيابه الطويل مسألة عادية بالنسبة لها .. ولم تعد تشعر بنفس اللهفة إليه ، أو الرغبة فيه .. وجاء موت الطفل ليقطع شعرة معاوية فى العلاقة بينهما .. وجعلها تشعر بمعنى أن تكون زوجة مع إيقاف التنفيذ .. وقررت أن تخرج "كنعان " من حساباتها ، بل ومن حياتها .. وتحافظ على الشكل الاجتماعى الذى يمنحه إياها زواجها منه..أما البيت ووهم الاستقرار فقد ضاع مع الطفل الذى ضاع.. وضاعت معه بذرة الغد والأمل فى المستقبل . -27- والصدمة كانت كبيرة هذه المرة على عفاف..والضربة كانت قاصمة، أفقدتها توازنها ، بل وأفقدتها الرغبة في الحياة وعادت الى التدخين بشراهة، وتعلمت أن تدفن أحزانها في كأس الخمر..وارتدت الى قواعدها غير سالمة..فلا عمرة ولا صلاة ..فقط خواء روحي ..ورغبة متجددة في الانتقام من الحياة والناس والظروف التي صنعت منها هذه الشخصية شديدة التناقض والتعقيد ..فلا سند ولا ولد..ولا حب حقيقي ينير روحها وينزع السواد من قلبها..كل من عرفتهم غدروا بها..وكل من استغلتهم، استغلوها هم الآخرون..لم ينظر أحد سوى الى جسدها..كانوا يتعاملون معها في السرير كمصاصي الدماء..ولا يتذكرون وهم معها سوى رغبتهم المستعرة في نهش لحمها الطري..وكانت هي الاخرى تبادلهم شهوة بشهوة..فلا دفء ولا مشاعر..لم تفهم معنى الحياة بحلوها ومرها ولم تستمتع بجسد رجل كما تمتعت بعز، لكنه كان جبانا وعديم الطموح، وأرادها دائما عشيقة وليست زوجة..ولم تذق طعم الحب الحقيقي سوى مع حاتم، لكنه باعها في أول الطريق، وأجبرها على أن تقتل جنينها وهو لا يزال في بطنها..ولم تفهم معنى البيت والسكن والاسرة سوى مع كنعان ، لكنه فضل حياته المستقرة ومنصبه وابنة بلده عليها وعلى ولدها. فهل تستطيع أن تقف مرة أخرى على قدميها ، بعد أن مات أعز ما لديها في الحياة ..وبعد أن عادت شجرة مزيفة بلا أصل ولا فروع ولا جذور..ولكنها عادت..غرقت في الحزن اسابيع وشهور، عاشت خلالها نصف حية ونصف ميتة.. لكنها عادت أقوى وأشرس مما كانت..فلا شئ تبكي عليه..ولا أمل تتعلق به سوى نجاحها وتألقها..وليكن تركيزها كله فى عملها ووضعها النقابى الجديد .. لقد تعودت على الصدمات والآلام.. وإن كانت صدمة فقدان إبنها قد أفقدتها الرغبة فى الحياة ، فلا أقل من أن تحتفظ بالرغبة فى الانتقام والانتصار على أعدائها الذين غاروا من نجاحها وفرملوها وفرملوه ..!