أكد الدكتور نظير عياد، أمين عام مجمع البحوث الإسلامية، أنه معلوم أن كل أمة من الأمم تفتخر بلغتها وتعتز بها وتعتقد أنها أفضل اللغات، ولا عجب في ذلك، فاللغة هي هوية الأمة وسبيل مجدها وتاريخ حضارتها، كما أنها بالنسبة للأمم جميعا أداة تواصلها وطريقة تفكيرها، ورمز عزتها، ومصدر فخرها، وأسلوب حياتها، لكنها للأمة العربية كل هذا وتزيد عليه أنها لغة دينها وكتاب ربها، جعل الله فهمها ضرورة وتعلمها شرفا، لهذا كان ارتباط المسلم بلغته مختلفا عن ارتباط أي إنسان بأية لغة أخرى، إذ لا يستطيع المسلم أن يقرأ كتابه بغير لغته التي نزل بها، كما لا يتأتى له القيام بأداء شعائره وإتمام عباداته بدونها. وأضاف عياد، خلال كلمته في احتفال الأزهر باليوم العالمي للغة العربية، أن اللغة العربية هي وسيلة المسلم لفهم مقاصد النص القرآني ومعانيه وغاياته الكبرى، المتمثلة في تلقي الأحكام الشرعية منه، ولذلك استعان العلماء باللغة العربية وفنونها في فهم مراد الله في كتابه والكشف عن أسراره، وتحديد دلالاته. وتابع: لهذا نظر إليها العلماء على أنها من الدينحيث إن فهم مراد القرآن والسنة من أوجب الواجبات، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، يقول ابن فارس عن وجوب تعلم العربية: "إن العلم بلغة العرب واجب على كل متعلم من العلم بالقرآن والسنة والفتيا بسبب، حتى لا غناء بأحد منهم عنه؛ وذلك أن القرآن نازل بلغة العرب، ورسول الله صلى الله عليه وسلم عربي. فمن أراد معرفة ما في كتاب الله جل وعز، وما في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم من كل كلمة غريبة أو نظم عجيب، لم يجد من العلم باللغة بدا».
واستكرد أمين مجمع البحوث في كلمته: وقال الشاطبي: " لا بد في فهم الشريعة من اتباع معهود الأميين، وهم العرب الذين نزل القرآن بلسانهم، فإن كان للعرب في لسانهم عرف مستمر، فلا يصح العدول عنه في فهم الشريعة، وإن لم يكن ثم عرف، فلا يصح أن يجرى في فهمها على ما لاوهذا جار في المعاني والألفاظ والأساليب". وأضاف قائلا: على هذا يتضح لنا أن معرفة اللغة العربية شرط في فهم القرآن الكريم لأن من رام تفسيره، وسعى إلى الكشف عن مضامينه والوقوف على أسراره وقوانينه، وهو لا يعرف لغته التي نزل بها فإنه لا شك سيقع في الزلل، ولن يخلو قوله من خلل فمن قالإنه يفهم القرآن الكريم دون حاجة إلى اللغة العربية فقد قال محالا وادعى مستحيلا. ونوه بأن هذا ما أكده أبو الوليد بن رشد في جواب له عمن قال: إنه لا يحتاج إلى لسان العرب، هل يلزمه شيء؟ فقال: هذا جاهل فلينصرف عن ذلك، وليتب منه؛ فإنه لا يصح شيء من أمور الديانة والإسلام إلا بلسان العرب، يقول الله تعالى: ﴿بلسان عربي مبين﴾ [الشعراء:195] .
وأوضح عياد، أن اللغة العربية مهمة جدا للعلوم الشرعية بشكل عام، ولعلوم القرآن والتفسير بشكل خاص؛ ومن ثم فقد أولاها العلماء موفور العناية، ومزيد الاهتمام، ولا غرو في ذلك حيث إن فضائل القرآن الكريم على العربية أكثر من أن تعد وأعظم من أن تحصى، فقد شاءت إرادة الله -تعالى- أن يكون آخر الكتب السماوية نزولا هو القرآن الكريم الذي نزل بلسان عربي مبين، هذا اللسان الذي كان العرب ينظمون به أشعارهم، ويلقون به خطبهم، ويكشفون به عن مجدهم، ويقارنون به بينهم وبين غيرهم؛ فقال تعالى: ﴿إنآأنزلنٰهقرءٰنا عربيا لعلكم تعقلون﴾[يوسف:2] وقال تعالى: ﴿ولقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلمهۥ بشر ۗ لسان 0لذى يلحدون إليه أعجمىوهٰذا لسان عربى مبين﴾[النحل: 103] وقال تعالى: ﴿وإنه لتنزيل رب العالمين نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين بلسان عربي مبين وإنه لفي زبر الأولين﴾[الشعراء] وقال تعالى: ﴿وكذٰلكأوحينآ إليك قرءانا عربيا لتنذر أم 0لقرىٰ ومن حولها وتنذر يوم 0لجمع لا ريب فيه ۚ فريق فى0لجنة وفريق فى0لسعير﴾[الشورى: 7] وقال تعالى: ﴿إنا جعلنٰهقرءٰنا عربيا لعلكم تعقلون﴾ [الزخرف: 3].
واسترسل قائلا: فهذه النصوص وإن كشفت لنا عن نزول القرآن باللسان العربي المبين إلا أنها في الوقت ذاته تكشف عن فضله على العربية وأصحابها؛ حيث إن القرآن الكريم خص دون غيره، وانفرد دون سواه من الكتب المنزلة بالمحافظة على لغته الأصيلة، فكان من آثاره عليها: ثبات ألفاظها لارتباط الشريعة وتفاصيلها بها، ليس هذا فحسب، بل لقد كان القرآن الكريم المصدر الأول الذي انبثقت منه العلوم الشرعية؛ كالتفسير، والفقه، والحديث وعلومه، والقراءات وأصول الفقه والعقيدة وغيرها، صحيح كانت العلوم ممتزجة فيما بينها امتزاجا شديدا، فلم يكن ثمة تحديد دقيق للأطر أو الدوائر التي يختص بها علم دون الآخر، حيث يجد الباحث فيما يجد علما قائما بذاته اسمه علم النحو، وعلما آخر اسمه علم التفسير، وعلما ثالثا اسمه مصطلح الحديث، ورابعا اسمه العقيدة، لكل هذا حرص العلماء على دراسة اللغة وارتبط ذلك بحرصهم على فهم القرآن من جهة ودراسة لغته من جهة أخرى باعتبارها مصدر العقائد والأحكام والتشريعات.
وشدد على أن مثل هذا يجعلنا نقول: لقد أعطى القرآن الكريم اللغة العربية أكثر من كونها لغة، فقد حافظ عليها بحفظ الله تعالى له، قال تعالى: "إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون" (الحجر:9)، فاستمدت منه كمالها وجلالها وجمالها، فكان لها سببا من أسباب السماء ، وهذا ما عبر عنه الثعالبي بقوله: "إن من أحب الله تعالى أحب رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم ومن أحب الرسول العربي أحب العرب ومن أحب العرب أحب العربية التي بها نزل أفضل الكتب على أفضل العجم والعرب ومن أحب العربية عني بها وثابر عليها وصرف همته إليها". وتابع: بجانب هذا فإن اللغة العربية هي لسان أهل الجنة، وهذا دليل فضل الإسلام على العربية وأهلها، يقول الفارابي الفيلسوف في ذلك: هذا اللسان كلام أهل الجنة وهو المنزه من بين الألسنة من كل نقيصة والمعلى من كل خسيسة والمهذبمما يستهجن أو يستشنع فبنى مباني باين بها جميع اللغات من إعراب أوجده الله له وتأليف بين حركة وسكون حلاه به فلم يجمع بين ساكنين أو متحركين متضادين ولم يلاق بين حرفين لا يأتلفان ولا يعذب النطق بهما أو يشنع ذلك منهما في جرس النغمة وحس السمعكالغين مع الحاء والقاف مع الكاف والحرف المطبق مع غير المطبق مثل تاء الافتعال مع الصاد والضاد في أخوات لهما والواو الساكنة مع الكسرة قبلها والياء الساكنة مع الضمة قبلها في خلال كثيرة من هذا الشكل لا تحصى.
واستطرد عياد قائلا: اللغة العربية فضلها كبير وشأنها عظيم ويكفي أنها انتقلت من كونها لغة شعب وإقليم إلى لغة كونية حين غدت لغة سماوية، لغة القرآن الكريم، وبالتالي فقد حوت عقيدة كونية أعلنت عن نفسها عقيدة للبشر عامة، وهذا ما جعل العربية في أقل من قرن، لغة عالمية كبرى تشكلت في أطرها وسياقاتها أسس الحضارة الكونية العظمى التي سادت العالم قرونا عديدة، وامتدت على مساحات شاسعة من قارات العالم القديم، وغدت لغة الحضارة الإنسانية التي انحلت في بوتقتها لغات وحضارات متعددة، وشكلت بالتالي حلقة محورية في الحلقات الحضارية الإنسانية الكبرى،وقد قدر لها البقاء دون تحريف قبل الإسلام ثم زادها الله تعالى عزة وشرفا وكرامة بأن اختارها لغةلكتابه فحفظت بحفظه ورفع شأنها بسببه.
وقال أمين الحوث الإسلامية: كانت العربية لغة حضارة كونية تأسست انطلاقا من العقيدة الإسلامية وكتابها الكريم الذي يمثل نموذجها الأعلى والذي حفظها حية متجددة، وهي إلى هذا لم تتحول إلى لغة لاهوتية، مثل بعض اللغات الأخرى، بل ظلت عبر القرون لغة الحياة والعلم والفكر الإنساني، وكل هذا يؤكد على فضل الإسلام على العربية وأهلها، الأمر الذي يدفعنا إلى ضرورة التمسك بها، والحفاظ عليها والعمل على استعادة مكانتها خصوصا مع كثرة التحديات وتعدد المعوقات التي تعمل على وأد اللغة والاستهانة بها والخروج بها والدعوة إلى استبدالها أو العمل على تغييرها أو على الأقل مسخها باعتبار ذلك يؤدي إلى مسخ الهوية، وغياب صورة الشخصية التي كونتها هذه اللغة باستنباط نصوص الدين قرآنا وسنة. واختتم عياد كلمته قائلا: إن العربية اليوم تعاني ما تعانيه الأمة، ولكنها تملك على الرغم من كل ما أصابها ويصيبها من وهن ومن جناية أبنائها عليها عناصر قوة تمكنها من التجدد والانتشار، لكونها مرتكز العقيدة الإسلامية، ولغة حضارة كونية ما زالت تفرض حضورها في العالم حتى يومنا هذا، ولغة تمتاز بمرونة وقابلية غير محدودة للتعبير عن الفكر والعلم والمعارف الإنسانية. ولو أتيح لها حركة ترجمة مبدعة شبيهة بمثيلتها في القرنين الثالث والرابع الهجريين لكنا اليوم أمام نموذج متفوق للغة تعليم في الجامعات بدلا من استعمال لغة أو لغات أجنبية أو هجينة.