غرقنا جميعا- كتابا وقراء ومواطنين علي وجه العموم- في غمار التحليلات السياسية لمشهد الصراعات الدامية بين المظاهرات والاعتصامات الفوضوية وقوات الأمن, ووقائع المواجهات الدموية بين الفصائل السياسية المتناحرة التي يسقط فيها كل مرة ضحايا ومصابون. وكل تلك التظاهرات التي لم تتوقف أبدا بعد ثورة25 يناير كانت- إلي وقت قريب- ترفع شعار سلمية سلمية إلي أن تخلي الجميع عن هذا الشعار بعد أن أصبح العنف هو اللغة السائدة للأسف الشديد, وأصبح الشعار دموية دموية! وكل ذلك في ضوء مقولات فارغة تقول إن التظاهر السلمي حق مقدس حتي لو عطل الحياة العامة, وأن الاعتصام حق من حقوق الإنسان, حتي لو قطع الطرق أو أغلق المصانع والجامعات. اختلط الحابل بالنابل, وامتزجت الثورة بالفوضي, وتصاعدت صيحات المنافقين سواء من أهل النخبة المخادعة, سواء كانت في السلطة أو في المعارضة, بأنهم يتبنون أهداف الثورة, وأن صراعهم منزه عن الهوي والمصالح الشخصية, لأنهم جميعا- هكذا زعموا يعملون لصالح البلاد! ومع أنني في لحظة ما شعرت بخطر الغرق في مستنقع الحاضر بكل الأوحال التي في باطنه, وكتبت مقالة بعنوان وداعا للحاضر ومرحبا للمستقبل في( الأهرام,13 سبتمبر2012) لكي أركز علي الرؤي الاستراتيجية التي ينبغي أن تكون موضع الاهتمام الشديد لسلطة الإخوان المسلمين الحاكمة ولفصائل المعارضة المتعددة, وكتبت بالفعل سلسلة مقالات متكاملة عرضت فيها الجهود الوطنية الرائدة في هذا المجال, إلا أن الواقع السياسي كان أشبه بالنداهة التي تحدث عنها يوسف إدريس تشدني مرة أخري لبحث إشكالياته وتحدياته التي لا تنتهي. وحتي في مجال عرضي للرؤي الاستراتيجية لم يسعفني الوقت لكي أؤصل المفهوم وأبين أبعاده, وهذا ما فعله أحد قرائي الكرام في تعليقه علي مقالي الماضي وهو الأستاذ ماهر زريق من الولاياتالمتحدةالأمريكية, والذي جعل عنوانه الدال من الواقع الكئيب إلي رؤية واستراتيجية2061 المتكاملة وهذا هو نص تعليقه أفترض أن الرؤية المنشودة والاستراتيجية المصاحبة لها سيأخذان في الاعتبار ليس فقط الاتجاهات(Trends) المحلية, لكن أيضا وربما مساو في الأهمية الاتجاهات الإقليمية والعالمية, وبالتالي تأثيرها علي الرؤية و الاستراتيجية. للتوضيح, علي سبيل المثال لا الحصر: محليا, الازدياد الطردي لتعداد السكان( التوقعات138 مليونا لعام2060), التعدي الطردي علي رقعة وادي النيل الزراعية: إقليميا: الضغط المتزايد علي حصص مياه النيل, نهاية عصر البترول: عالميا: تأثير الانحباس الحراري, تغير عظيم في تكنولوجيا التصنيع وتأثيره علي العمالة, تغير عظيم في تكنولوجيا التجارة تغير عظيم في تكنولوجيا الترفيه والسياحة تعداد العالم سيصل إلي1009 مليارات نسمة أغلبه في الدول النامية مسببا ضغطا شديدا علي المواد الغذائية ومياه الشرب, الدول المتقدمة تلجأ إلي سياسة الانعزال والحماية ضد الطوفان البشري من الدول النامية, وأترك جانبا أي تعليق علي حروب نووية أو إرهاب نووي وخلافه من هذا القبيل. والأستاذ زريق بهذا التعليق يركز علي ما هو متعارف عليه عالميا في صياغة الرؤي الاستراتيجية, والتي لابد أن تبدأ بقراءة دقيقة لتحولات النظام العالمي وتصوب نظرها لمجال التحديات في التكنولوجيا والإدارة تمهيدا لتحليل واقع المجتمع الذي تصاغ الرؤية من أجل وضع الخطط المستقبلية لتطوره. وإذا تركنا الرؤي الاتستراتيجية جانبا وركزنا علي بداية المقال, حيث مارست النقد الذاتي لتركيزي المفرط علي المشهد السياسي بدون اهتمام بتحليل الواقع الاقتصادي والاجتماعي, فقد وجدت تعليقا بالغ الأهمية لقارئ كريم آخر لمقالي السابق وهو الدكتور أحمد الجيوشي, وهو من قرائي المتابعين وهو يقدم لنا- باستخدام أسلوب المؤشرات الكمية- لوحة متكاملة للواقع الاجتماعي المتردي في مصر المحروسة, والذي يحتاج إلي تكاتف كل الفصائل السياسية لحلها بشكل توافقي وليست جماعة الإخوان المسلمين الحاكمة بمفردها, بعدما بدت أنها لا تمتلك أي رؤية استراتيجية للنهضة. يقول الدكتور الجيوشي في تعليقه. أعداد العاطلين( سن15 سنة فأكثر) تبلغ2.4 مليون عاطل( نسبة بطالة إجمالية10% تقريبا) موزعين وفقا للحالة التعليمية, ومنهم991.6 ألف عاطل من جملة المؤهل المتوسط الفني بنسبة42%, يليهم حملة المؤهل الجامعي وفوق الجامعي932.3 ألف عاطل بنسبة40% ثم حملة المؤهل فوق المتوسط وأقل من الجامعي206.8 ألف عاطل بنسبة9% ثم حملة المؤهل أقل من المتوسط18.7 ألف عاطل بنسبة4% يليهم الأميون, والمتأمل في الأرقام التي احتواها التقرير فيما يخص البطالة سيجد عجبا, فأعلي نسبة بطالة هي بين خريجي الدبلومات الفنية المتوسطة, وهو ما يعكس حتمية النظر بعمق لمشاكل ذلك النوع من التعليم الفني الذي يخرج جيوشا من العاطلين كل عام, فهذا القطاع من المدارس الفنية نظام3 سنوات يخرج سنويا ما يقرب من600000( ستمائة ألف) فني, فإذا كانت البطالة الحالية في هؤلاء الخريجين تبلغ قرابة المليون شخص كما أشار التقرير, فإننا نضيف إليهم سنويا600000 إنسان جديد دون أن نوفر لهم أي فرص لحياة كريمة, وهو ما يستدعي وقفة حقيقية مع تلك المدارس لتحسين منتجها( بتطوير حقيقي للعملية التعليمية برمتها), وربما تقليل أعداد طلابها, أو تشجيعهم علي استكمال دراسات أخري. وإذا كان الدكتور الجيوشي قد ركز علي البطالة بين المتعلمين فإن هذا التحليل للواقع الاجتماعي يحتاج إلي استكمال فيما يتعلق بمعدلات الفقر والتفاوت الطبقي الرهيب في المجتمع المصري. وأقصد بذلك صعود أعضاء الطبقات الغنية المترفة الذين أثروا بلا سبب- ومن خلال تواطؤ قادة النظام السياسي معهم وعن طريق الحكومة- في مجال نهب أراضي الدولة وتوزيعهاعليهم وكأنها إقطاعيات, وذلك بأثمان بخسة باعوها من بعد بأضعاف ثمنها وبنوا القصور والفيلات الباذخة في التجمع الخامس والقطامية وغيرها من الأحياء الجديدة, حيث ركزت إعلانات شركات المقاولات علي أن أهم ما يميز هذه المنتجعات المسورة هي ملاعب الجولف التي تصل مساحتها إلي مئات الأفدنة وتحتاج إلي ملايين الأمتار المكعبة لديها. وذلك علي الرغم من الانتشار الشديد للعشوائيات والتي يعيش فيها ملايين المصريين من الفقراء والذين يسكن جزء منهم يقدر عددهم بثلاثة ملايين مواطن في المقابر لأنهم لا يجدون السكن اللائق الكريم. وهكذا علينا بدلا من التركيز الشديد علي المشهد السياسي المتردي في البلاد حيث الصراع العنيف بين جماعة الإخوان المسلمين الحاكمة وفصائل المعارضة حول السلطة السياسية, علينا أن نركز الأضواء علي الواقع الاقتصادي المتردي لملايين المصريين وعلي تدهور الأحوال الاجتماعية والثقافية للشعب. نقلا عن الاهرام اليومى المزيد من أعمدة السيد يسين