لأمر ما قررت أن انتقل من الحاضر إلي المستقبل هروبا من الواقع الكئيب الذي يسود المجتمع هذه الأيام, حيث يسود التشرذم بين كافة الفصائل السياسية, ويهيمن الانقسام السياسي الخطير بين الجبهة الليبرالية والثورية والجبهة الدينية ممثلة في جماعة الإخوان المسلمين والتيارات السلفية, وينفلت الأمن, وتنحدر القيم, ويتدني السلوك الاجتماعي. وقررت كما ذكرت بوضوح في مقالي الماضي الثورة في مرآة المستقبل(4 أبريل2013) أن أركب آلة الزمن التي ابتدع فكرتها الروائي البريطاني الشهير ه.ج. ولز لا لكي أعود إلي الماضي, ولكن لكي أقفز إلي المستقبل لأري كيف حلل المؤرخ المستقبلي أحداث ثورة25 يناير. وقد هبطت إلي مطار المستقبل يوم25 يناير عام2061 أي بعد خمسين عاما من قيام ثورة25 يناير.2011 وهناك- كما قلت- اكتشفت أن الدكتور مختار عبد القادر هو المؤرخ المعتمد للثورات المصرية لأنه أخرج كتابا من أربعة أجزاء الأول عن الثورة العرابية والثاني عن ثورة1919 والثالث عن ثورة23 يوليو1952 والرابع عن ثورة25 يناير والذي اعتمدت عليه في سرد أحداث الثورة وتأويل وقائعها المتعددة. الدكتور مختار عبد القادر شخصية افتراضية ابتدعها خيالي. غير أنني اندهشت دهشة بالغة حين طالعت بدقة كما أفعل دائما- تعليقات قرائي الكرام علي مقالاتي التي تنشر عادة علي شبكة الإنترنت, إذ وجدت بعضهم ظن أن الدكتور مختار عبد القادر شخصية حقيقية, وأنه ألف فعلا هذا الكتاب المرجع عن الثورات المصرية الأربع, لدرجة أن بعض القراء وجه له التحية مباشرة عن تحليلاته العميقة للأوضاع في مصر المحروسة! قلت لنفسي ربما فات هؤلاء القراء الأعزاء أن هذا المؤرخ القدير هو شخصية افتراضية, تماما مثل الشخصية الافتراضية الأخري التي اختلقتها وهو خليل الجبرتي حفيد المؤرخ الكبير عبد الرحمن الجبرتي! وبناء علي طلب القراء الأعزاء قررت أن أجعل الدكتور امختار عبد القادر شخصية حية لا افتراضية! وبناء علي ذلك فكرت جديا في تأليف كتاب وجيز عبارة عن دراسة مقارنة للثورات المصرية الأربعة وهي الثورة العرابية وثورة1919 وثورة23 يوليو1952 وثورة25 يناير.2011 وقررت أن أصدر الكتاب بتوقيع الدكتور امختار عبدالقادر ما دام قد حظي بهذه الشهرة العريضة بمجرد ذكر المرجع الذي قلت أنه ألفه, وقلت لنفسي لا بأس من أن أتواري خلف هذا الاسم الافتراضي الذي خلقته من خيالي, فإذا به ينطلق من أسر الخيال ويصبح له حياته المستقلة! وحين تمعنت في قراءة تعليقات القراء الأعزاء علي مقالي, وفيهم من وافق الدكتور امختار عبد القادر علي تحليلاته, وبعضهم انتقد آرائي مباشرة واتهمني بالتحيز وعدم الموضوعية, وجدت عددا منهم يتساءلون ما هو المخرج من الأزمة؟ وهذا في الواقع سؤال بالغ الأهمية, ويستحق أن أقدم بصدده من باب الاجتهاد- بعض الإجابات. وبعد تفكير عميق في هذه المعضلة توصلت إلي عبارة واحدة مفردة تحمل في طياتها تفسير الأزمة وتقدم حلولا لها, وهو أن الأسباب العميقة لها هي الافتقار إلي الرؤية, والخبرة, وعدم الإيمان الحقيقي بقيم الديموقراطية! وقد سبق لي من قبل أن خصصت سلسلة كاملة من المقالات عن أهمية صياغة رؤية استراتيجية لمصر تكون هي الأساس في مشروع النهضة الحقيقية للبلاد فقد بدأتها بمقال عنوانه وداعا للحاضر ومرحبا بالمستقبل نشر في13 سبتمبر.2012 وبناء علي ذلك كتبت ابتداء من20 سبتمبر2012 تسع مقالات متتابعة للتعريف برؤي استراتيجية مصرية رائدة وضعتها فرق بحثية متعددة. وأهمها مشروع الرؤية المستقبلية لمصر2030 الذي أشرف عليه في مركز الدراسات المستقبلية الدكتور امحمد منصور, ومشروع المخطط الاستراتيجي القومي للتنمية العمرانيةب الذي أشرف عليه الدكتور امحمد البرادعي وزير الإسكان السابق, ومشروع الخطة القومية لمضاعفة الدخل: إطار استراتيجي لفترة عشر سنوات2012-2022 الذي أصدرته لجنة التخطيط في وزارة التخطيط والتعاون الدولي وأعده فريق من الباحثين المرموقين برئاسة د. أحمد فرحات والمحرر الرئيسي كان الدكتور محسن توفيق. وهذه الرؤي الاستراتيجية الكبري التي حاولت بأسلوب علمي دقيق رسم استراتيجية تنموية شاملة لمصر في العقود القادمة تصلح أساسا لفتح حوار مجتمعي حولها لاتخاذ قرارات بصدد تنفيذها. وعودة للموضوع الأصلي نقول أن سر تخبط جماعة الإخوان المسلمين في الحكم كما ظهر جليا للناس جميعا هو افتقارهم لرؤية استراتيجية محددة, مما أدي إلي تخبط قراراتهم وعجزهم عن إدارة البلاد. غير أن افتقار الإخوان المسلمين للرؤية لا يعادله في الواقع إلا افتقار جبهة المعارضة بتشكيلاتها المختلفة وفي مقدمتها جبهة الإنقاذ لهذه الرؤية أيضا! وهنا يكمن الشلل الذي أصاب البلاد, وأثر بالسلب علي حياة الجماهير العريضة اليومية. ودعوني أطرح اقتراحا قد يندهش له الكثيرون. لماذا لا نحاول مساعدة جماعة الإخوان المسلمين علي بلورة رؤية استراتيجية متكاملة؟ إن حدث ذلك- وبغض النظر عن رغبة بعض الفصائل المعارضة في افشال مشروع الإخوان- فإنه سيساعد علي حل مشكلات الناس اليومية المتفاقمة, وهو الهدف الذي ينبغي أن نسعي إليه جميعا حكومة أو معارضة. ولذلك سعدت بالمؤتمر الذي دعا إليه التيار الشعبي بقيادة حمدين صباحي لدراسة مشروع لإنقاذ الاقتصاد المصري, بناء علي بدائل مدروسة يقدمها خبراء اقتصاديون. وقلت لنفسي هذه أول خطوة للخروج من المأزق. وأتمني أن يدعي ممثلون لحزب الحرية والعدالة لكي يحضروا المؤتمر, ويقدموا تصوراتهم عن حل المشكلة الاقتصادية. وهذا سيكون هو الحوار السياسي الحقيقي بدلا من الحوارات السياسية العقيمة السابقة. غير أن الافتقار إلي الرؤية هو أحد أسباب الأزمة, ولكن هناك سببين آخرين لا يقلان أهمية, وهما افتقار الكوادر الإخوانية لخبرة الحكم وعجزهم عن تقديم رجال دولة يتسمون بالكفاءة والقدرة علي الحسم, بالإضافة إلي عدم إيمان الأطراف السياسية علي تنوعها بقيم الديموقراطية. ويؤكد ذلك الشعار الفارغ من المضمون والذي ترفعه جماعة الإخوان المسلمين من أن الصندوق هو الحكم في التعبير عن الإرادة الشعبية, وقد نسوا أن صندوق الانتخابات مجرد آلية من آليات الديموقراطية وأهم منه بكثير قيم الديموقراطية. وهذه موضوعات كبري تستحق أن نتابعها فيما بعد. نقلا عن صحيفة الاهرام