يتناسى السياسيون اللبنانيون طواعية خلافاتهم للدفاع عن الوضع الطائفي القائم الذي يستفيدون منه، ليصطدموا بوجود الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في لبنان بعد يومين من انفجار مرفأ بيروت، حيث استقبله السكان بحرارة في موقع الكارثة، بينما لم يقدر هؤلاء على الذهاب إلى هناك ومواجهة غضب مواطنيهم. وفقا لصحيفة "لوموند" الفرنسية، حاول قادة لبنان إثناء ماكرون عن قرار العودة إلى بيروت في الأول من سبتمبر، لكن الرئيس الفرنسي حاول الصمود وأوفى بوعده، ليفتح على نفسه جبهة مواجهة طويلة الأمد، مع نفس الطبقة الحاكمة في لبنان. قبل عودة ماكرون إلى بيروت، وافقت القوى اللبنانية على تعيين مصطفى أديبا على رأس الحكومة الجديدة، وهو ما اعتبرته الصحيفة الفرنسية، محاولة لخداع ماكرون وإضفاء المصداقية باختيار رئيس وزراء لن تعترض عليه باريس. رفض الإليزيه الربط بين خطط ماكرون واختيار رئيس الحكومة اللبنانية، محاولا إسكات الاتهامات التي تتحدث عن "استعمار فرنسي جديد"، ومن جهة أخرى وافق الرئيس الفرنسي على منح مهلة للحكومة الجديدة لتشكيلها، ومن ثم الالتزام بمساعدة ضحايا انفجار المرفأ وإعادة بناء الميناء. وتوضح الصحيفة في تقريرها أن خطة ماكرون تتضمن الرقابة عل رأس المال وإعادة هيكلة القوانين، مع العمل على مكافحة الفساد والتهريب، فضلا عن كثير من الإصلاحات العامة. وهي رؤى يأمل من خلالها أن يكسر مناورات التأخير التي ينتهجها السياسيون في لبنان. يشير التقرير إلى أن توقيت صرف المساعدات الدولية كان عاملا رئيسيا حول هذا التوازن بين القوى، ففي التاسع من أغسطس، استضافت فرنسا مؤتمرا للمانحين تعهدت خلاله بالتبرع بأكثر من 250 مليون يورو لمساعدة ذلك البلد المنكوب. كان الرئيس الفرنسي أعلن في وقت سابق عن عقد مؤتمرين في باريس، الأول بشأن المساعدات الطارئة إلى لبنان، والآخر بشأن الإصلاحات الأساسية، لكن في كلتا الحالتين يؤكد ماكرون أنه لن يدفع شيكا على بياض، بل يقول إنه سيعود إلى بيروت في ديسمبر للاطمئنان على الوضع بشكل أفضل. وترى "لوموند" أن الزمرة الحاكمة في لبنان، لطالما عرفت كيف يمكن أن تجني فائدة من المآسي الجماعية التي ضربت هذا البلد، متظاهرة بأنها الوسيط الإجباري الذي يجب أن يمر من خلاله التضامن الدولي، حتى لو كان ذلك يعني احتكار جزء منه. وتضيف أن الرئيس اللبناني ميشال عون، والذي أبلغ بمخاطر شحنة "نترات الأمونيوم" الموجودة في مرفأ بيروت يبذل قصارى جهده لدفن تحقيق جدي في هذا الأمر، مبينة أن حديثه مؤخرا عن "دولة مدنية" في لبنان، تم تفسيره بشكل غير صحيح على أنه التزام لصالح دولة علمانية، وأنه مجرد إضفاء صورة حضارية على جوانب النظام الطائفي. ومع ذلك، تقول الصحيفة إن الرئيس اللبناني ليس سوى رئيس صوري لطائفة جرت لبنان عاما بعد عام إلى الكارثة الحالية، مشرة إلى أن القادة السياسيون ينتهزون الفرصة مرة أخرى على حساب المجتمع الوطني. أما القوى الشيعية، أولها حزب الله، فهو يعاني بالفعل إفلاسا واسع النطاق لكنه استعد لتعزيز قبضته على المجتمع الشيعي، معتمدا على خطاب سيادي يتعلق بمستقبل السكان لضمان الهيمنة. علاوة على ذلك، دفع الانهيار الاقتصادي النساء والرجال الذين يمكنهم تحويل رأسمالهم الاجتماعي أو الثقافي إلى اللجوء لمنفى يائس خارج البلاد، كما أن هذا الاستنزاف من المهارات اللبنانية يترك هؤلاء المغلوبين على أمرهم ليظلوا أكثر اعتمادًا على شبكات الدعم الطائفي والولاء المطلق لقادة الفصائل المختلفة. من جانبه، يراهن ماكرون على ديناميكية فاضلة تؤدي إلى إصلاحات إدارية ومالية تجبر النظام اللبناني على اتخاذ إجراءات فورية، وامتنع عن استئناف دعوته حول ميثاق سياسي جديد والتفكير في إجراء انتخابات مبكرة أو التشكيك في طائفية الدولة، ليؤكد أن مبادرته تمثل "الفرصة الأخيرة للنظام". وبذلك، يضع الرئيس الفرنسي نفسه في خلاف وتحد بل يجازف بالاعتماد على المسؤولين عن الكارثة اللبنانية ليبدأ معهم رحلة لإيجاد مخرج من الأزمة، متمثلين في حكومة انتقالية منحت سلطات تشريعية استثنائية لنحو 18 شهرا. حيث يرى الإليزيه أن الاختبار الحقيقي في لبنان قد بدأ للتو.