ظهرت قوات الحماية الكردية وجيش سوريا الدمقراطي، كقوة كبرى استطاعت بسرعة فائقة، أن تحرر معظم الشمال السوري المحاذي لتركيا، من هيمنة الدولة الاسلامية بما فيها تحرير مدينة منبج والتوجه نحو مدينة "الباب" الحدودية، بل وعبرت أيضا شرق نهر الفرات، مما أثار الغضب التركي الذي اعتبر نهر الفرات خطا أحمر لا يجوز أبدا عبوره، فتدخلت تركيا نتيجة ذلك بشكل مباشر، مستخدمة مدرعاتها وجنودها اضافة الى غطاء شكلي من بعض قوات المعارضة المسلحة، لتعبر الحدود الرسمية مع سوريا، بعد عملية قصف مدفعي مركز، وتتوجه نحو مدينة جرابلس لتطرد الدولة الاسلامية منها وتسيطر عليها باسم قوات المعارضة السورية، وذلك بهدف وضع موطىء قدم لها يمكنها من الحد من توسع الاكراد في السيطرة على مزيد من المناطق الكردية وخصوصا بعد عبورهم نهر الفرات. وربما كان عبور الأكراد لنهر الفرات خطأ جسيما ولم يكن متوافقا عليه مع داعميها في الولاياتالمتحدة، بدليل أن جو بايدن، نائب الرئيس الأميركي، بادر الى القول وهو في تركيا، الى وجوب انسحابهم الى ما وراء النهر، والا خسروا الدعم الأمريكي. وهكذا يبدو أن الأكراد في غمرة انتشائهم بالنصر الذي حققوه، قد أصابهم بعض الغرور، فتجاوزوا الخطوط الحمر التي رسمت لهم في تحالفهم الواضح مع الولاياتالمتحدة. لكن تجاوزهم الخطوط الحمر، لم يقتصر على استعداء تركيا، المعادية أصلا، اذ امتد لاستعداء الحكومة السورية أيضا، التي ربما كانت راضية الى حين، عن مجريات الأحداث في الشمال السوري، باعتبارها خطوة نحو تأسيس اقليم كردي يعتمد فيه، في ظل نظام فدرالي يبدو متفق عليه أميركيا وروسيا، مبدأ الحكم الذاتي أسوة بما هو جار في كردستان العراق. فالتصريحات الكردية المتعطشة للسلطة وللاستقلال، مع توجه لعدم الاكتفاء بالحكم الذاتي المتفق عليه أميركيا- كرديا، وربما أميركيا روسيا، وقوبل على الأقل بصمت سوري شبه رسمي... قد بدأت تتحدث عن تحرير مدينة الرقة من الدولة الاسلامية، علما بأنه من المتوقع رسميا وربما دوليا، أن تكون مهمة تحريرها، مهمة سورية بدعم روسي، تبدأ بعد الانتهاء من تصفية المسألة الحلبية. وكانت القوات السورية قبل بدء معركة حلب، قد بدأت فعلا بالتوغل داخل الحدود الادارية لمحافظة الرقة وسيرت فعلا على مساحة واسعة من أراضي المحافظة. ولكنها عدلت عن ذلك لحقا بعد انشغالها بقضية حلب. وهكذا جاءت التصريحت الكردية الكاشفة عن النية للتوجه نحو الرقة لاحقا (وهي المدينة الكبيرة) بهدف تحريرها بعد مدينتي الباب وجرابلس، لتدق أجراس الخطر للحكومة السورية. اذ أن توجه نية الأكراد لتحرير الرقة، كما قدرت الحكومة السورية، انما هو مؤشر على توجه الأكراد لضم مدينة الرقة للاقليم الكردي المنوي تأسيسه، الأمر الذي اثار مخاوف الحكومة السورية من عدم التزام الأكراد بتعهداتهم وبوعودهم. ومن هنا بدأت الاشتباكات بين الطرفين في مدينة الحسكة، اذ سعت الحكومة السورية المنشغلة أصلا يمعركة حلب، والتي لم تكن بالتالي قد تهيأت لهذه المعركة، لبسط سيطرتها على تلك المدينة المشتركة، كرد على مخاوفها من المطامع الكردية، لكن الأكراد الذين كانوا أكثر استعدادا لتلك المعركة التي لم تؤازر فيها سورية الطائرات الروسية، استطاعوا فرض هيمنتهم على تلك المدينة واجبار القوات السورية على الانسحاب منها، بما في ذلك من ضربة للتوافق المحدود غير المعلن، ومن كشف كما يبدو لبعض من الشرور في النوايا الكردية. والواقع أن النوايا الكردية المتطلعة في عمق تصورها وأمنياتها للاستقلال التام الذي وعدت به كما يبدو من قبل الولاياتالمتحدة، ليست واضحة المعالم في العراق أيضا، كما هي في سوريا ، ويعزز هذا الاحتمال، أن أكراد العراق لدى اعلانهم عن استعدادهم للمشاركة في معركة تحرير الموصل، قد طالبوا الحكومة العراقية بتحديد مكتسباتهم من تحريرها، وبالدور الذي سيكون لهم في الموصل بعد تحريرها من الدولة الاسلامية. فإكراد العراق، الذي يعقد مسعود البرازاني رئيس كردستان، تحالفات غامضة مع الرئيس أردوغان، يتطلعون الى ضم الموصل الى اقليم كردستان، الذي قد لا يظل طويلا مجرد اقليم، اذ يتطلع البرازاني لتحويله الى دولة مستقلة وبدأ الاعداد الآن لاجراء استفتاء حول ذلك. والأكثر من ذلك، أن قاعدة عراقية في شمال العراق، يرجح في منطقة سنجار أو تلعفر، وجرى تحريرها من الدولة الاسلامية، قد استولى أكراد العراق عليها مؤخرا، واعتبروها أيضا منطقة كردية، مما يكشف عن نوايا التوسع في اقليم كردستان ايضا لدى الأكراد. وهنا لا بد من التساؤل عن حقيقة التفاهمات الأميركية الكردية، وهل تقتصر على حكم ذاتي لهم، ربما موسع في كل من العراقوسوريا، أم يمتد الأمر لانجاز الدولة الكردية المستقلة لتصبح الذراع الثاني للولايات المتحدة في المنطقة اضافة الى الذراع الأول وهو اسرائيل؟ ومن أجل تفادي شيء كهذا، فقد حذرت مرارا وفي مقالات سابقة بوجوب التفاهم الودي مع الألأكراد على منحهم الاستقلال طوعا، عوضا عن انتزعه بقوة، أو نتيجة تحالفات مشبوهة مع أميركا أو مع اسرائيل. وهذا يتطلب أيضا طرح التساؤل عن مصير التفاهم الروسي الأميركي ومدى بقائه حيا على ضوء التفاهم الروسي التركي المفاجىء والذي تم سريعا وفي ليلة واحدة، وقبل الانقلاب التركي الفاشل، وبالتالي لم يكن بوسع المراقب التقدير بأن مرده مخاوف تركيا من النوايا الأميركية نحوها، خصوصا وقد شابت شكوك لدى أردوغان بضلوع الولاياتالمتحدة بدور في الانقلاب التركي الفاشل، كخطوة لمؤازرة حليفها فتح الله غولان.. وتزداد التساؤلات أيضا وأيضا حول الموقف الروسي بعد قيام الطائرات الروسية بالانطلاق من قاعدة عسكرية في منطقة همدان في ايران، حيث أنها قد استخدمت للانطلاق منها لقصف مواقع في حلب، فهل بات هناك تفاهم روسي ايراني، بل وربما تفاهم روسي ايراني يشمل تركيا أيضا، وهو تفاهم يتعلق بالأكراد وتباركه سوريا، وذلك مقابل تعهد تركي باغلاق حدودها في وجه المعارضة السورية المسلحة والدولة الاسلامية، في مسعى لوضع حد للأزمة الناشبة في سوريا منذ أكثر من خمسة أعوام ؟ فهناك مصلحة ايرانية مشتركة مع سوريا ومع تركيا بالنسبة للشأن الكردي، حيث أن شمال شرق ايران، هو أيضا منطقة كردية يتطلع سكانها للاستقلال أو نحو حكم ذاتي. والمنطقة الكردية تشكل مساحة واسعة من ايران وعاصمتها مدينة مهاباد الكردية التي كانت في مرحلة ما، في السنة الأولى للثورة الايرانية، هي الموقع الوحيد الذي بقي تحت سيطرة الدولة الايرانية، حيث تمرد الأكراد على امتداد المنطقة الكردية الايرانية مطالبين بالانفصال عن ايران. فالجمهورية الاسلامية بالتالي، تعلم وتقدر أن استقلالا أو حكما ذاتيا يحصل عليه سواء أكراد تركيا أو أكراد سوريا، سرعان ما سوف يمتد لهيبه الى كردستان ايران كما امتد سابقا لكردستان العراق. فالمصلحة المشتركة متوفرة اذن لدى الأطراف الثلاثة: تركيا، ايرانوسوريا، وهي مصلحة لا تتعارض مع مصلحة روسية خصوصا اذا تلقت الثمن المقابل المتمثل بحل النزاع في سوريا، وتسهيلات عسكرية في ايران اضافة للتسهيلات العسكرية التي تتلقاها الآن في كل من طرطوس وحميمين.. والواقع أن روسيا ليست الدولة الوحيدة التي تبحث عن مواقع عسكرية لها في المنطقة، فالولاياتالمتحدة قد باشرت أيضا، فور نجاح العراقيين في تحرير قاعدة القيارة الجوية العسكرية العراقية من هيمنة الدولة الاسلامية. باشرت في توسيع مدرج المطار الذي يتجاوز امتداده أصلا ثلاثة آلاف متر، وفي بناء المنشئات الضرورية في القاعدة التي تقع على بعد 65 كلم من الموصل، وذلك بذريعة اعدادها لتدريب القوات العراقية التي ستنفذ عملية تحرير المدينةالعراقية الكبرى الواقعة تحت هيمنة الدولة الاسلامية. ولكن بعض التكهنات تشير الى ما هو أبعد من ذلك. فالقيارة كما يرى البعض، تعدها الولاياتالمتحدة لتكون بديلا عن قاعدة انجرليك في تركيا، والتي قد تكون الولاياتالمتحدة مرشحة لفقدان التسهيلات فيها وخصوصا اذا ساءات العلاقات الأميركية التركية بشكل أوسع، وهي العلاقات التي كانت سيئة منذ معركة عين العرب "كوباني" وازدادت سوءا اثر المحاولة الانقلابية الفاشلة في تركيا.