جرت عادة المسئولين من القمة إلى القاعدة أن يستهينوا بالأحداث لأسباب يظن أنها تخدم القضية الوطنية والسمعة الدولية، وللأسف فإن غالبية وسائل الإعلام تنقل عن المسئولين الأخبار كما أرادها المسئول أن تكون. وعلى النقيض من ذلك، فإن الفضائيات، ومصادر الخبر الخارجية تذيع وتنشر الأخبار على نقيض ما يعلن في الداخل، وقد تبالغ المصادر الخارجية بصورة تثير الخوف والقلق والانزعاج، وبين النقيضين تزداد الإشاعات، وتطاير القصص، بالدرجة التي تدعو إلى التقليد في بعض الأماكن العشوائية والفقيرة والنائية. أما المعالجة الأمنية، والتي أصبحت نمطاً يتكرر بصورة كربونية بممارسة الضغط على المجني عليه للتنازل عن شكواه، أو القبض على الجاني والمجني عليه باعتبارهما جناة ومتهمين، وعليهما أن يتصالحا أو يقدما للحكم، وتأتي التقارير والتحريات، وفي الغالب الأعم تنتهي بالتنازل رضاءً، أو مايسمى صلحاً، أو بعقاب الجاني والمجني عليه، وفي بعض الحالات يعاقب المجني عليه لأنه ليس ملاكاً، ولم يكن كذلك، بل حاول الدفاع عن نفسه ليقينه أنه لن يجد من ينتصر له ويرد له حقه مما يشجع على مزيد من العنف. والمتابع للأحداث بنظرة موضوعية يستطيع ملاحظة أنها تتزايد يوماً بعد يوم، ومن موقع إلى آخر، ولنأخذ مثالاً على ذلك موقعة القميص. وبدون الدخول في التفاصيل، ومن واقع المعلن في وسائل الإعلام نلاحظ ما يلي: 1- المكوجي شاب يدين بالمسيحية 2- صاحب القميص شاب كهربائي ويدين بالإسلام 3- لم يكن بينهما بالطبع عداوة أو خلاف مسبق وإلا ما لجأ إليه الأخ الكهربائي، وفي الغالب أنه لم يكن التعامل الأول بينهما. 4- احترق القميص بخطأ مهني من المكوجي يستوجب التعويض رضاءً أو قضاءً. 5- لاشك أن قميص الكهربائي يشكل بالنسبة له قيمة كبيرة، فليس لديه الكثير، وقد يكون للقميص ذكرى، أو حاجته الملحة لمقابلة مهمة، وإلا ما لجأ للمكوجي وهو كهربائي، وغالباً كان يمكن أن يقوم بنفسه بهذه العملية، كما يحدث في الكثير من بيوتنا توفيراً للمال والوقت في الغالب الأعم. 6-أسلوب معالجة المشكلة، فقد أخطأ المكوجي في عمله المهني، وكان يمكنه الاعتذار عن الخطأ والاستعداد للتعويض الذي يرضي صاحب القميص. وفي المقابل كان يمكن لصاحب القميص أن يتفهم الخطأ غير المقصود، وإما أن يتسامح، وقد لا يتعامل مع ذلك الأرعن الذي لا يتقن عمله، ويحافظ على الأمانة التي لديه، وهنا يأتي السؤال: وأين الدور الأمني في القصة؟ وللرد على هذا السؤال نسمع الإجابات التالية: رجل الشرطة سوف يثور ويكيل الاتهامات لكليهما، لاسيما لو كان البلاغ في نهار يوم حار وفي شهر الصيام. ولهذا يرى البعض أن اللجوء للجهات الأمنية مضيعة للوقت، واستهانة بالشكوى، وضياع الحقوق، وقد تنقلب الأوضاع ليصبح الجاني مجني عليه والمجني عليه جانياً، وفي هذه الحالة لا مجال إلا بالتنازل عن الشكوى وقبول الأمر الواقع. 7- إذاً ما الحل؟ والجواب ليس سهلاً لاسيما والثقافة متدنية والظروف الاقتصادية أكثر سوءاً، والمسئولون الأمنيون مثقلون بالمشكلات، ومهددون بالاعتداءات، وأحوالهم المادية لا تشجع على التضحيات، والحكم النهائي يتأثر غالباً بالمظاهرات والاعتصامات، ومهاجمة المقار الأمنية التي تعدت كل الخطوط إلى التظاهر في المحاكم وخارجها، وتهديد العدالة والقائمين عليها دون أي اعتبارات. 8-إذاً النتيجة النهائية أننا أمام عوامل متداخلة تستدعي قفص كبير في قاعة العدالة والضمير، يقف أمامها الجناة والمجني عليهم وأصحاب السلطة، ولا أظن أنه من السهل على ناقد أو محلل أن يفرق بين أي من الأطراف، بل سيطلب الادعاء إدخال أطراف أخرى في القضية مثل المعلم، وأنظمة التعليم ومناهجه، ورجال الدين وعظاتهم وأشرطتهم ومكبرات أصواتهم، والمتلقين لخطابهم في المساجد والكنائس. وتطول القائمة لتضم النظم المالية، ومن بيدهم إقرار الحد الأدنى لدخل الفرد . أما رجال الإعلام والفنانون والكتاب والملحنون، وجميعهم يمكن مسألتهم عما يقدمون من برامج، وإبداعات، فقيل إنها وصلت لأكثر من عشرة مليارات من الجنيهات، والمنتظر أن يتضاعف مردود ما أنفق من الشركات التي تعلن عن منتجاتها بالحق أو بدونه. وأما الجاني فهو نفسه المجني عليه مع تبادل الأدوار وفق الظروف والأحوال، فنسأل لكليهما الصبر والاحتمال، مع علمنا أن رصيد صبرهم واحتمالهم قد نفذ، وتجاوز الدين حد القدرة على الوفاء، حتى لم يعد أمامهم إلا الرضى بما قسمه اختلال العدل، وقلب الأوضاع، وتبقى أيادٍ مرفوعة للسماء، ليحفظ الله مصرنا الغالية، فيعود الجميع إلى العمل المخلص، والتمسك بالعدل والحق والرحمة، عملاً وقدوة لا كلاماً وشعراً وغناءً وتمثيلاً، وعقارب الساعة تسير كما تعودناها، ولن تعود للوراء، ولن تتوقف عن الدوران، وصوت الضمير ينادي الجميع قائلاً: العدل والرحمة ولا بديل عنهما.