كان انقلاب الضباط الأحرار في 1952 أول وآخر انقلاب عسكري بشكله الكلاسيكي تشهده مصر في تاريخها الحديث، ولم تعرف المؤسسة العسكرية بعدها أي محاولات في هذا الاتجاه لسببين، الأول: أنها مؤسسة منضبطة ولاؤها للوطن وانحيازها للشعب، التزمت بدورها في حماية أمنه وحدوده، وأبعدت نفسها عن دنس السياسية وأدرانها، ثانيها: أن العقيدة العسكرية التي ترسخت في وجدانها أن العدو الوحيد الواجب رفع السلاح في وجه هو العدو الصهيوني المتربص بنا على الحدود الشرقية. ولا يمكن تفسير الشعار العبقري "الجيش والشعب إيد واحدة" أو صور التقدير والإجلال لضباط وجنود جيشنا أثناء الثورة والأيام التي تلتها إلا من هذ المنطلق، وبالتالي يصبح أي توريط للمؤسسة العسكرية في لعبة السياسية وتحالفاتها وتكتيكاتها خصما من رصيد الجيش الشعبي والوطني، وهو خطر محدق ولعب بالنار. إن المتابع للمشهد السياسي برمته يدرك أن هناك حالة من التخبط والعشوائية وعدم الكفاءة والجهل استحكمت في كثير من الأحداث ورسمت صورا ذهنية مغايرة عن الصورة النقية الأولى، ومحاولة استمرار غرس الجيش في مستنقع السياسة يعني ببساطة أنه طرف في المعادلة، ما يعني التعامل معه باعتباره إما خصما وإما حليفا، وهنا مكمن الخطورة القاتلة الواجب علينا جميعا الالتفات إليها والتنبه لتداعياتها المحدقة. لا يمكن ونحن نرى تفاصيل المشهد الكلية استناء أحد من الأطراف الفاعلة من تحمل مسئولية الانفلات والتخبط، والوصول إلى أعتاب فقدان الشرعيتين الثورية والدستورية، فالشرعية الثوية أنهكت بمعارك دامية، أريقت فيها الدماء في ماسبيرو ومحمد محمود ومجلس الوزراء والعباسية، وعريت فيها النساء وكشف على عذريتهن، واتهمت بالتمويل وتنفيذ الأجندات الخارجية، وتعرضت لحملة تشويه وشيطنة منظمة نفذتها أيدى النظام السابق الاخطبوطية المعشعشة في كل ركن من أركان الدولة بمباركة الحاكم الجديد وأحيانا توجيهه، وبصمت قوى تيار الإسلام السياسي المتحالف مع الجنرالات لاستكمال مخطط الاستحواذ والتمكين الذي حلموا به على مدار عقود. أما الشرعية الدستورية فقد توالت عليها الضربات منذ استفتاء 19 مارس ثم الانقلاب عليه بإلغاء دستور 71، واصدار إعلان دستوري أوصلنا إلى مؤسسة تشريعية مطعون في دستورية القانون الذي وضع أعضاءها فوق مقاعدهم، وانسحب بالتالي على شرعية الرئيس المقبل، وأخيرا تعليق اللجنة العليا للانتخابات أعمالها احتجاجا على ما أسمته إهانة لأعضائها قبل بدء التصويت بأيام. إن مشهد فقدان الشرعيتين الثورية والدستورية، إذا وضعناه إلى جانب جمعة الرايات السوداء في العباسية، والظهور المفاجئ لشقيق أيمن الظواهري، وأسلحة مسجد النور، ودعوة الشيخ أبو الأشبال لاعتقال وإعدام جنرالات المجلس العسكري، وتسابق أحزاب فروع أمن الدولة إلى التحذير من حكم طالبان وبن لادن، ورغبة الجماعة في تأجيل انتخابات الرئاسة بعدما استشعرت ابتعاد مرشحها "الاستبن" عن قصر العروبة وخشيتها من حل البرلمان وفقدان شرعيتها الدستورية مع تآكل شعبيتها الجماهيرية، نستطيع أن ندرك أن كل هذه الأشياء بمثابة تمهيد كثيف للنيران قبل بدء الانقلاب الناعم الذي تلاقت فيه مصالح كل هذه الفرق والجماعات. إن الانقلاب الناعم الذي دخل مراحله التنفيذية بالتوجه للإعلان عن تأجيل الانتخابات الرئاسية يعنى حل البرلمان بعد شهرين على الأكثر إذا حكم بعدم دستورية قانون الانتخابات، ويعني أننا سنعيش بلا دستور دائم لأن لجنة المائة ستصبح بلا شرعية لانتخاب اللجنة التأسيسية، ويعني ببساطة انقلاب الجنرالات على الثورة والاستمرار بقوة السلاح وربما الأحكام العرفية، وهو سيناريو حرق مصر وإخراجها لعقود مقبلة من معادلة التأثير والنفوذ والفعل. لكن يبقى أهم متغير في معادلة مصر الجديدة الذي لم يلتفت إليه خبراء الاستراتيجية والتكتيك وأدواتهم "الواعية والتابعة والحليفة والمتعاونة بالقطعة" وهو رد الفعل الشعبي الذي سينقلب بدوره على كل الشرعيات ليكتب شرعيته هو، والتي ستكون بالتأكيد دموية وحارقة بقدر الانقلاب نفسه.