تميزت العصور القديمة بغزارة علم أهلها، فترى الرجل العالم متميزا في الأدب واللغة والنحو والعروض والفقه والحديث والطب والرياضيات… وغيرها من العلوم، مما جعل علماء العصر القديم لهم الفضل الكبير علينا إلى الآن، وإن نظرنا لأنفسنا بتقدم الدنيا التي نعيشها وجدنا أننا لن نقدم جزءا مما قدموه لخدمة الإنسانية، ومثالنا على هؤلاء: المصري جلال الدين السيوطي. مولده ونسبه 849ه1445م/ 911ه 1505م هو الإمام الحافظ أبو الفضل جلال الدين عبد الرحمن بن كمال الدين أبي المناقب أبي بكر بن ناصر الدين محمد بن سابق الدين أبي بكر بن فخر الدين عثمان بن ناصر الدين محمد بن سيف الدين خضر بن نجم الدين أبي الصلاح أيوب بن ناصر الدين محمد بن الشيخ همام الدين الهمام الخضيري الأسيوطي، وُلِد في القاهرة عام849ه/ 1445م، وعاش بها القاهرة، واشتهر بجلال الدين السيوطي. طفولة الإمام السيوطي وتربيته كانت لنشأة الإمام السيوطي أثرها البارز في حياته فيما بعد، حيث هو ابن لأسرة اتخذت العلم منهجا للعيش، فقد كان أبوه معلما ومربيا للكثير من طلبة العلم الذين ينتمون لمكانات اجتماعية رفيعة، ولكن والده فارق الحياة بعد أن جاء إليها هو بست سنوات، فامتهن مهنة والده، باتجاهه إلى جمع العلم، فأتم حفظ القرآن قبل بلوغ الثامنة، هذا غير الكثير من الكتب مثل: العمدة، ومنهاج الفقه والأصول، وألفية ابن مالك، هذا الكم من العلم كان سببا في نبوغه، كما أنه لقي من الرعاية والعناية من العلماء ما لا حد له، لأنهم كانوا أصدقاء والده لدرجة أن بعضهم تولى وصايته، كان الكمال بن الهمام الحنفي صاحب الأثر الأكبر في نفس السيوطي، إذ زاعت شهرته في عصره بالعلم والورع وبعده عن من له علاقة بالدولة من سلاطين وأمراء، فكانت هذاه الميزة الأخيرة مما تميز به السيوطي أيضا. من الأمور البارز أثرها أيضا في حياة هذا العالم الجليل، أنه جاء فيه عصر لم يكن منفردا فيه بغزارة العلم، بل كان هناك الكثير والكثير من العلماء الذين عاصرهم، وكان لهم إسهامات لا تنكر في مجالات مختلفة منها: علوم اللغة بأنواعها، الإبداع الأدبي والبراعة البلاغية، الطب، الهندسة، الرياضيات… مما جعله يقبل على العلم بنهم منذ الصغر، فدرس الفقه والنحو والفرائض وبعد عامين أصبح السيوطي معلما للغة العربية وهو ابن السابعة عشر وهي نفس السنة التي أطلق فيها مؤلفه الأول "شرح الاستعاذة والبسملة" الذي أعجب بها شيخه علم الدين البلقيني. السيوطي بين شيوخه وتلاميذه لا خلاف على غزارة علمه وهو القائل عن نفسه: "قد رُزقتُ – ولله الحمد – التبحر في سبعة علوم: التفسير والحديث والفقه والنحو والمعاني والبيان والبديع" كل هذه العلوم فضلا عن الإنشاء والترسل والفرائض والقراءات والطب. تعلم كما قلنا تجنب أرباب الدولة والسلاطين مما جعله يعاصر ثلاثة عشر سلطانا من المماليك بعلاقة لا تتطور، فاحتفظ فيهم بمكانته، وكان البعض منهم يود التقرب إليه بالزيارة والهدايا فيرد هداياهم، ومرة أن أهدى إليه السلطان الغوري خصيا وألف دينار، فرد الألف وأخذ الخصي، فأعتقه وجعله خادما في الحجرة النبوية، وقال لقاصد السلطان: "لا تعُدْ تأتينا بهدية قطُّ؛ فإن الله تعالى أغنانا عن مثل ذلك" ثم طلبه السلطان مرارا فلم يحضر إليه، وألَّف في ذلك كتابا أسماه "ما وراء الأساطين في عدم المجيء إلى السلاطين" أما عن منهجه في العلم، فقد كان يختار شيخا واحدا يتلقى منه ويلازمه أبدا حتى إذا مات انتقل لغيره، والأكثر تأثيرا في السيوطي هو الشيخ "محيي الدين الكافيجي" فقد بقي معه أربعة عشر عاما، وسماه أستاذ الوجود، وهناك الكثير غيره منهم: تقي الدين الشبلي، جلال الدين المحلي، شرف الدين المُنَاويّ، الأقصرائي، علم الدين البلقيني، العز الحنبلي، تقي الدين الشمني، المرزباني، هذا غير العلم الذي تلقاه على أيدي النساء ومنهن: كمالية بنت عبد الله بن محمد الأصفهاني، أم هانئ بنت الحافظ تقي الدين محمد بن محمد بن فهد المكي، آسية بنت جار الله بن صالح الطبري، خديجة بنت فرج الزيلعي. انتهى دور الشيوخ ليأتي دور السيوطي وعلمه الذي يضخه لتلاميذه، فأدى رسالته على وجه حسن، فمن أبرز طلابه شمس الدين الداودي، صاحب كتاب طبقات المفسرين، الذي قال عن أستاذه السيوطي: "كان أعلم أهل زمانه بعلم الحديث وفنونه رجالاً وغريبًا، ومتنًا وسندًا، واستنباطًا للأحكام منه، وأخبر عن نفسه أنه يحفظ مائتي ألف حديث؛ قال: ولو وجدت أكثر لحفظته. قال: ولعله لا يوجد على وجه الأرض الآن أكثر من ذلك.." والمؤرخ الكبير ابن إياس صاحب كتاب بدائع الزهور، الذي قال فيه: "كثير الاطِّلاع، نادرة في عصره، بقية السلف وعمدة الخلف، وبلغت عدَّة مصنفاته نحوًا من ست مائة تأليف، وكان في درجة المجتهدين في العلم والعمل.." وشمس الدين الشامي صاحب كتاب السيرة الشامية. ألف الإمام السيوطي الكثر من المؤلفات، فقد عدَّ له بروكلمان "415" مؤلَّفًا، و حاجي خليفة في كتابه "كشف الظنون" حوالي "576" مؤلفًا، ليصل في النهاية تلميذه ابن إياس إلى "600" مؤلف، وبإرادة من الله حفظ أغلب هذه المؤلفات إلى الآن إن لم يكن كلها في المكتبة العربية والإسلامية، لينهل الجميع من هذا البحر الذي لا ينضب علمه. وفي عام 911ه/1505م رحل عنا العالم العلم المصري جلال الدين السيوطي، فكانت جنازته مشهد عظيما قال منه تلميذه الشاذلي: "لم يَصِلْ أحدٌ إلى تابوته من كثرة ازدحام الناس.." ودفن خارج باب القرافة في القاهرة، ومنطقة مدفنه تعرف الآن بمقابر سيدي جلال نسبة إليه، وقبره معروف هناك.