ما إن استهل الأربعاء الأول من شهر صفر لسنة 1220 هجري الذي وافق أول مايو من عام 1805 م حتى بدأت الأحداث في مصر تتصاعد بشكل غير مسبوق، هذه الأحداث التي تمخضت منها مصر الحديثة ودخلت بها أرض الفراعين عهدا جديدا أنهى عصرا طويلا من السيادة العثمانية والسلطوية المملوكية. يحكي أبو التاريخ المصري الحديث «الجبرتي» أنه مع بداية الشهر كان الوضع في مصر يزداد اضطرابا بشكل كبير وبدا كأن الدولة تدخل في عهد من الفوضى التي قد تنهيها أو تدمرها، بل وصل الأمر حسب كلامه إلى أن العسكر المنوط بهم حماية الناس، كانوا في كل وقت يقع التشاحن بينهم في الطرقات ويقتلون بعضهم بعضا، بل يروي أيضا أن أحد قادة العسكر من المماليك «الألفي» نشر جنده وعسكر والبدو الذين استجلبهم لخدمته في إقليم الجيزة فنهبوا البيوت وخطفوا ما في يد الفلاحين من زروع ويخطفون النساء والأطفال بل بلغ بهم الفجور أن اغتصبوا بعض الرجال. أما أهالي منطقة مصر القديمة في هذا التوقيت أيضا، فقد توجهوا إلى الجامع الأزهر يصرخون في شبه «مظاهرة» ويستنجدون بمشايخ الأزهر لإنقاذهم من أفعال العسكر الدالاتية الذين عاثوا في القاهرة فسادا وبغيا وظلما؛ فاستولوا على بيوتهم ومساكنهم، بل حتى ملابسهم، يقول الجبرتي «فركب المشايخ إلى الوالي وخاطبوه في أمرهم، فكتب فرمانا خطابا إلى الدالاتية يأمرهم فيه بالخروج من الدور وتركها لأصحابها، فلم يمتثلوا ولم يسمعوا ذلك»، فكان فيما يبدو تمردا وعصيانا، فقد فيه الحاكم السيطرة على مقاليد الأمور في البلاد. يبدو أن قائدا كان في مهد ظهوره في هذا الآونة، التف حوله المشايخ والنخب، ورأوا فيه أنه قد يكون المنقذ للبلاد والعباد، إنه «محمد علي باشا» الذي شهدت هذه الأيام تعيينه واليا على جدة، في خطوة كان الهدف منها إبعاده عن مصر وعن المصريين الذين التفوا من حوله. في هذه الأثناء أيضا، استمر العسكر الدالاتية في بلطجتهم؛ فتوجهوا إلى قليوب أقاموا «الفردة» على الأهالي، وطالبوهم بالمال والنفقات، استولوا على أملاكهم وديارهم بل حبسوا نساء شيخ البلد وطلبوا منه «إتاوة» يومية قدرها 100 قرش. وبدأت الثورة.. خرج الفلاحون في قليوب بسلاحهم لأول مرة، واندلعت حرب بينهم وبين الدلاتية، مات فيها 100 فلاح على الأقل، وحاول المشايخ تهدئة الأوضاع، لكن الناس قالوا «وأي شيء حصل من الأمان؟» حسب نص الجبرتي. في 12 مايو 1805، ركب المشايخ إلى بيت القاضي في مصر، ولحقهم حشد كبير من العامة والنساء والأطفال حتى امتلأ حوش القاضي بالناس، وقالوا «شرع الله بيننا وبين هذا الوالي الظالم»، حتى الأطفال، يروي الجبرتي أنهم كانوا يرددون بصوت عال «يا لطيف.. يا لطيف» «يارب يا متجلي.. أهلك العثملي» والعثملي تعني بالمصرية «العثماني». طلب الوالي حضور القاضي والمشايخ والأعيان للمناقشة، لكن الأغلب رفضوا، حيث توقعوا أن يتم اغتيالهم في طريقهم للقلعة، وكان يوم 13 مايو، الحدث الجلل، الذي يعد انتصار أول ثورة مصرية في العصر الحديث، فاجتمع حشد أكبر أمام بيت القاضي، ومنعهم العسكر من الدخول، فتوجهوا بحشدهم كله إلى «محمد علي باشا»، وقالوا له «إنا لا نريد هذا الوالي حاكما علينا ولابد من عزله من الولاية»، فقال محمد علي ومن تريدونه واليا فقالوا له «لا نرضى إلا بك واليا ولكن بشروطنا»، كانت هاتان الجملتان دستور نجاح الثورة المصرية وقتها، التي نسميها اليوم «الإرادة الشعبية الواعية». وألبس عمر مكرم، نقيب الأشراف، والشيخ الشرقاوي، شيخ الأزهر، محمد علي كركا وقفطانا لإعلانه واليا بإرادة الشعب، ونادوا في الشوارع، فقال الوالي وقتها إن الشعب لا يعين ولا يعول، إنما هذا الحق فقط للسلطان العثماني في تركيا. لكن بعد ذلك بأيام، نزل السلطان على إرادة الشعب وعزل الوالي، وأصبح محمد علي باشا أول حاكم بإرادة شعبية مصرية كاملة، وكان هذا اليوم 13 من مايو أول ثورة مصرية قام بها الشعب منذ قرون، وظل في ذاكرة المصريين عيدا وبداية لتأريخ العصر الحديث.