اختار وزير الداخلية اليوم العالمي لحرية الصحافة ليقتحم، في اليوم السابق له، مقر نقابة الصحفيين لإلقاء القبض على صحفيين مطلوبين كانا يعتصمان داخل النقابة.ولابد لكل منشغل بالأمر أن يسأل: هل كان الوزير يتعمد ذلك، أم لم يكن يعرف، أم أنه لم يكن يبالي؟ بالطبع سنتجاهل مسألة أنه لم يكن يعرف، إذ هي أمر غير معقول. بقي احتمالان، الأول أنه كان متعمِّداً ذلك، إما للإقلال من قيمة الصحفيين وتحجيم دورهم وكفِّ «مشاغباتهم»، أو لإحداث أزمة مقصودة. وكلا الأمرين شديد السوء، خاصة إذا عرفنا أن هذا الاقتحام لمقر النقابة من قبَل قوات الأمن هو الأول من نوعه في تاريخها وأن لهذا المقر قيمة رمزية في شأن حرية التعبير والقلم والتجاء المتظاهرين إليه طلباً للدعم والحماية والتمتع بنوع من الحصانة، وكأنما كان مقصوداً القضاء على هذه الرمزية. الأمر الثاني أن الوزير لا يبالي من الأساس، وهو يكاد يساوي في نتائجه التصرف عن عمد مع إبعاد قصدية الحطّ من شأن النقابة وأعضائها، وإظهار جانب الاعتداد بالقوة والسلطة. فلننظر إذن فيما حدث وفي نتائجه علّنا نهتدي إلى شيء. انتفضت الجماعة الصحفية اعتراضاً على هذا الاقتحام المشين والغريب والأول من نوعه، وعُقدت يوم الأربعاء، الرابع من مايو، جمعية عمومية طارئة كانت أقرب إلى التظاهرة الضخمة. شعر الصحفيون بالغضب من الاقتحام، ثم شعروا بالانتشاء من الاحتشاد الكبير والقرارات الثمانية عشرة التي اتُخذت والتي كان منها: كسر قرار حظر النشر، وضرورة إقالة وزير الداخلية، ونشر صورته نيجاتيف أو «العفريتة» مع عدم نشر اسمه، وتسويد أجزاء من صفحات الجرائد، والمطالبة باعتذار الرئاسة. وفي نفس يوم انعقاد هذه الجمعية العمومية كان ثمة تظاهرة ل«المواطنين الشرفاء» قريباً من مقر النقابة ترفض تظاهرة الصحفيين وتقذفهم بالسباب، وبالحجارة أحياناً، بدعوى رفض التظاهر الذي لا هدف له سوى تعطيل المصالح والسعي إلى هدم الدولة ومقاومة السلطات وتحدي رئيس الجمهورية. وعلى الفور، وفي نفس اليوم وكالعادة، انقسم الصحفيون، وظهر فريقان في برامج «الكلام» أو التوك شو، فريق يتزعم مطالب النقابة، وفريق يتزعم منطق التهدئة والتعقل من أجل نزع فتيل الأزمة والحفاظ على مؤسسات الدولة وهيبة الرئاسة في ظل مؤامرات تُحاك لإضعاف الدولة المصرية والسعي لإسقاطها. ثم كانت «تعليمات» الداخلية الفضيحة التي قيل إنها تسربت للصحافة بالخطأ، والتي توحي بإجراءات معينة لامتصاص غضب الصحفيين وتفويت الفرصة عليهم، ومنها استضافة قيادات شرطة سابقين للحديث في التليفزيون واقتراح حلول بعيدة عما تطالب به النقابة، ومنها تعليمات ل«المتعاونين» من الصحفيين مع الداخلية، مما يوحي بسطوة الداخلية وتغلغل الفساد في العمل الصحفي إلى حدود ومستويات مخيفة. ويكاد الأمر ينتهي باقتراح تدخل «عقلاء المهنة» أو عقلاء الجانبين وتبادُل الزيارات وشرب الشاي والمصالحة. وتكون الداخلية بذلك قد فعلت ما أرادت ومرّت بفعلتها، وكما تجاوزت أزمتها مع المحامين والأطباء من قبل ستتجاوز أزمتها كذلك مع الصحفيين. وهنا لابد من الإشارة إلى أن كبار رجالات الجبهتين (الداخلية والصحافة) سيتوقفون عن التصعيد عند نقطة معينة، إذ ليس من مصلحتهم جميعاً كشف ما يتورطون فيه من فساد متبادل. لقد كان انقسام الجماعة الصحفية إلى فريقين بداية التساهل، بل بداية التهاون والتفكك. ويبدو أنها الخطة المتبعة في كل المجالات والنقابات، تفتيت الكتلة إلى فريقين أو أكثر، وضم أحد الفريقين تحت جناح السلطة ومن ثم إشهار أنياب السلطة، وهي ها هنا الداخلية، في كل مرة، وإسقاط فكرة إمكان اشتغال النقابات بالعمل السياسي حتى في ظل ضعف الأحزاب واهترائها وهوان مجلس النواب بسبب ضعف الوعي السياسي العام في البلد كله. وها هنا نثيرعدداً من الأسئلة من أجل التفكير فيها فحسب.. هل هذه الأزمة خاصة بذاتها أم يُراد أن تكون لها تأثيرات على قضايا أخرى مثل قضية التخلي عن الجزيرتين ونسيان أمر المحبوسين بخصوصها؟ وهل لذلك علاقة ما بقضية مقتل ريجيني من قريب أو بعيد؟ هل المقصود هو توكيد هيبة الشرطة وإنفاذ القانون أم هي صراعات بين أجهزة الدولة ومؤسساتها؟ هل لها علاقة بكراهية اشتغال النقابات بالعمل السياسي؟ هل يُقصد إلى المزيد من التفتيت والتقسيم لأي تكتلات سياسية تتمتع بشيء من القوة والتماسك والمصداقية والتأثير؟ وأخيراً.. أمازال سيناريو الفوضى الخلاقة مستمراً؟