بالتجربة القاسية، اكتشفنا أن العالم الحر ليس حرا كما نعتقد, ولا معنيّا بنضالات شعوب الجنوب أو برفع ثقل العالم الذي يجثم علي صدور الأشقياء كما يدّعي، ربما كان ذلك التصور أقل إيلاما قبل الثورات العربية, فصمت الشعوب علي الظلم والاستبداد وتعذيب وقتل المواطنين، كان كافيا لنلوم أنفسنا وحسب، فماذا بوسع العالم الحر أن يفعل إن كان أصحاب الحق صامتين, لكن الأمور بدت أكثر وضوحا بعد انتفاضة الشعوب وتضحياتها من أجل قليل من هامش الحياة !. فيما كانت أحلام الشعوب الفقيرة الثائرة يداعبها الأمل ويلهمها تراث العالم الحر في تأمين حقوق وحريات المواطنين, كان العالم الحر الذي يسيطر علي قراره السياسي تبرعات الشركات العابرة للقارات ومراكز الثروة قلقٌ يترقب ما قد تؤول إليه أوضاع المنطقة, ويتابع عن كثب كل التفاصيل أملا في إيجاد من بإمكانه السيطرة علي هؤلاء المواطنين من جديد كي يكبح طوفان موجات البشر المهاجرة عبر المتوسط أو صراخ القابعين في قعر التاريخ من أجل عدالة قد تعيق تراكم الثروة في الملاذات الآمنة. هكذا أمّن نظامٌ مجرمٌ قام علي جثث المئات وعلي حرية عشرات الآلاف وعلي أحلام وتطلعات الملايين اعترافا دوليا, هكذا فهم السيد الجديد ما عليه فعله, فقط أن يرضي من بيدهم الأمور !. اتفاقية سيمنز الكل يذكر اتفاقية سيمنز مع النظام المصري بشأن إنتاج محطات الطاقة في صيف العام الماضي, وهي الاتفاقية الأكبر في تاريخ الشركة الألمانية بتكلفة 9 مليارات دولار تكفّلت الشركة الألمانية بتوفير الائتمانات الخاصة بقروضها, وهي الاتفاقية التي فتحت العواصم الأوروبية أمام رأس النظام المصري ووفرت له دعما دوليا معتبرا, غير أن هذا ليس كل ما فعلته سيمنز, وبالرغم من أن أمورا خفية كالاتفاقات السرية التي يشوبها الفساد قد يكون التحقق من حدوثها أو حتي معرفة حجمها صعبا, إلا أن هذا ليس في العالم الرقمي!. دعونا فقط نبدأ بنافل القول, وهو أن الشركة الألمانية لها سوابق تاريخية في قضايا مشينة وصدر بحقها أحكام قضائية وغرامات مالية ضخمة, أهمها كان في العام 2007 عندما تم تغريم الشركة 396 مليون يورو على خلفية التلاعب بأسعار الطاقة في الأسواق الأوروبية, ثم في 2008 غرامة مالية أخري قيمتها 1.34 مليار يورو علي خلفية قضايا رشاوي عديدة لمسؤولين بألمانيا والولايات المتحدة وغيرهما, وفي العام 2008 أيضا جرت تحقيقات موسعة حول رشاوى قدمتها الشركة لحكوميين يونانيين بارزين, وهو التحقيق الذي أُغلق بفعل عدم تعاون المحققين الألمان مع نظرائهم اليونايين. غير أن الفضيحة ذات الصلة بما قدمته الشركة الألمانية للجنرال المصري, هي فضيحة إمداد النظام الإيراني بتقنية اعتراض الاتصالات ومعدات لمراقبة المعلومات علي الإنترنت في أثناء احتجاجات 2009, وتمت هذه الصفقة عبر إحدى شركات تكتل نوكيا – سيمنز «سيمنز للحلول الاستخباراتية», وبعد الفضيحة تم بيع الشركة لمحفظة شركاء بيروسا, وهي مؤسسة استثمارية خاصة في ميونخ, ثم أُعيد تسميتها لتكون شركة «تروفيكور», والأخيرة تم دمجها مرة أخرى مع سيمنز تحت مسمي «مورد شبكات نوكيا – سيمنز», والأخيرة التي تزوّد إدارة البحوث التقنية التابعة للرئاسة المصرية بتقنيات اعتراض الإتصالات والتجسس علي الأفراد, وهي واحدة من شركات عديدة تعتمد علي خدماتها وتقنياتها الطغمة الأمنية التي تحكم مصر لاختراق خصوصية المواطنين. لقد عقدت سيمنز صفقة رابحة مع الجنرال المصري, وكان عليها في المقابل أن تقدم شئيا لعميلها, ولم تتدخر الشركة جهدا في ذلك, فكما فتحت للنظام الباحث عن القبول الغربي الأبواب المغلقة في العواصم الأوروبية, فقد أوصدت في الوقت نفسه الباب في وجه صور مقاومة الجنرال في الداخل وزوّدته بالتقنيات اللازمة لبناء جهازه الأمني الشخصي القادر علي حصار المواطنين وعلى مراقبة ولاء العملاء أيضا, وكما فعلت سيمنز فعلت إيني الإيطالية وغيرها الأمر ذاته, فالنظام المصري القائم يعتمد علي كسب الدعم الغربي عبر صفقات الأمر المباشر مع الشركات العابرة للقارات التي لها تأثيرها البالغ في صناعة القرار في العالم الحر, ومن ناحية أخري تساعده تلك الشركات عبر خدماتها وخدمات آخرين علي إحكام السيطرة علي حركة المواطنين القابعين في قعر العالم، ووفقا لتسريبات ويكيليكس في 8 يوليو 2015 (برقية رقم 14661) فالنظام المصري نجح في الحصول علي معدات تقنية لأغراض التجسس علي المواطنين من العديد من الشركات, منها شركة هاكينج تيم التي زوّدت الأجهزة الأمنية المصرية بمعدات اعتراض اتصالات تقارب قيمتها المليوني يورو, إلي جانب تقنيات أخري تحصّلت عليها المؤسسات الأمنية تتجاوز قيمتها المليون ونصف دولار عبر شركة جي إن إس إيجيبت التابعة لمجموعة منصور, وكل هذا لم يكن ليتم لولا سيمنز وإيني وشركائهما !. باولا ريجيني غير أن العالم الحر ليس فقط سيمنز وأعوانها الفاسدين, فهناك مواطنو العالم الحر الذين قرروا أن يضعوا النظام العالمي بأكمله أمام مسؤولياته وشعاراته وإرث الإنسانية الطويل, هؤلاء المواطنين الذين يعلنون انتماءهم للبشرية ويقدّرون نضالات ومعاناة غيرهم ويأملون في عالم أكثر عدالة من هذا العالم الذي تحكمه الثروة ويتحكم في مصيره الأغبياء والموتورون, هم الصحفيون الذين يطاردون الثروات المنهوبة في الملاذات الآمنة, وهم من يعتقدون في انتصار الإنسان حتي لو كانوا خارج حسابات الانتصارات السياسية الضيقة العابرة, وهم باولا ريجيني التي وقفت في وجه محاولات طمس الحقائق وتمييع القضية. لقد انتمي جوليو ريجيني لعالم المعرفة والشغف بها, وانحاز لفقراء الجنوب كما لم يفعل مثقفو وأكاديميو الجنوب أنفسهم, ولم يبرح عالمنا بلا ضجيج, بل ترك وراءه ضجيج الإصرار الذي تحدثه والدته باولا ريجيني, تلك الآدمية التي قررت أن تقف في وجه الثروة وجرائمها لتدافع عن انحيازات ابنها للإنسانية.