بثت أول أمس فضائية الأقصى، المقربة من حركة المقاومة الإسلامية "حماس" كلمة متلفزة للمتحدث بأسم الجناح العسكري للحركة، أبو عبيدة، أعلن فيها لأول مرة عن وجود أربعة أسرى إسرائيليين في حوزة المقاومة، وهو ما يعد نقطة التحول الأهم حتى الأن في مسار التواتر الإعلامي المتبادل بين تل أبيب والحركة فيما يخص هذه المسألة، التي يسودها التعتيم الإعلامي والأمني خاصة في الجانب الإسرائيلي، وذلك بعد عامين من العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة. وجاءت كلمة المتحدث بأسم كتائب الشهيد عز الدين القسّام كتصعيد جديد من جانب المقاومة في قطاع غزة رداً على الاعتداءات الإسرائيلية الأخيرة، والتي كان أخرها قيام جندي إسرائيلي بإلإعدام العلني للشهيد عبد الفتاح الشريف بعد إصابته بإطلاق النار على رأسه أمام الكاميرات، واستغلال الحكومة الإسرائيلية حالة التأييد العام لهذه الجريمة من جانب الشارع الإسرائيلي، لإطلاق سراحه دون مسائله؛ فالحادثة المأساوية بخلاف أنها تأتي وفق ما اعتاده الاحتلال ضد الفلسطينيين، فإن التعاطي الحكومي المسنود على تأييد الإسرائيليين استلزم رد مناسب من القسّام وسط مناخ عام من التجاهل الداخلي والإقليمي لتصاعد عنف الاحتلال رغبة في استمرار التهدئة ورجاء في جعلها هدنة طويلة الأمد بغطاء عربي يوفره مؤخراً مناخ التقارب و المتبادلة بين دول عربية والكيان الصهيوني. إلا أن استعادة زمام المبادرة التي بدأتها القسام أمس قوبلت بتجاهل وتكذيب إسرائيلي، على الرغم من مرور ما يقارب عامين من الحرب الأخيرة التي أعقبها تواتر عن تواجد أسرى من جيش الاحتلال في حوزة المقاومة الفلسطينية، وقابلها تكذيب إسرائيلي بأنه بالحد الأقصى ما يتواجد لدى القسّام هو أشلاء من جنود قتلوا أثناء معارك الحرب الأخيرة، وخاصة معركة حي الشجاعية، والتي قالت عنها الكتائب أنها تم خلالها أسر الجندي آرون شاؤول، فيما زعم جيش الاحتلال مقتله في انهيار نفق للمقاومة أثناء أسره. هذا التلاعب الإسرائيلي يأتي كإستراتيجية جديدة تتعامل بها تل أبيب مع ملفات الأسرى، والتي كلفتها من وجهة نظر الحكومة الحالية الكثير من الخسائر الإضافية بعد انتهاء معارك حروب 2006، 2009، وأخيراً 2014، حيث أكدت المقاومة اللبنانية انتصارها في عملية تبادل الأسرى التي أعقبت الحرب، وكذلك فعلت القسام في صفقة التبادل الخاصة بالجندي جلعاد شاليط، وهو الأمر الذي بالتأكيد سيفوق في حالة أسر أربعة جنود في الحرب الأخيرة كما أعلنت القسام، التي بدورها بدأت في استراتيجية جديدة مقتبسة من تجربة حزب الله اللبناني في الأمر نفسه، حيث التعتيم على مصير الأسرى حتى لحظة التبادل تثميناً للمقابل الذي ستحصل عليه سواء الإفراج عن الأسرى الفلسطينيين أو مكاسب أخرى تتعلق بوضع القطاع المحاصر. ويبدو أن السلوك الإسرائيلي تجاه السابق يفضل أن يحيد الضغط الممكن من جانب الشارع الإسرائيلي فيما يخص ملف الأسرى لدى المقاومة، لتجنب ما حدث في صفقتي التبادل مع حزب الله في 2008 ومع حماس في 2011، والتي اضطرت حينهما الحكومة الإسرائيلية إلى الخضوع إلى شروط المقاومة سواء في طريقة التفاوض أو المحصلة النهائية عند التبادل. هذا التحييد الذي تبتغيه حكومة نتنياهو يأتي كتتويج لسياسة انتهجها الأخير منذ توليه الحكومة وهي تهيئة الداخل الإسرائيلي لمقدار من الخسائر متوقع في أي مواجهة قادمة، وبالتالي كان حديث المسئولين الإسرائيليين طيلة الفترة الماضية عن استرداد أشلاء جنديين فقط، هما آرون شاؤول وهدار جولدين، والأخير لم تعترف القسّام بأسره في وقت سابق، ناهيك عن الكشف عن مصيره. لكن كشف المقاومة أمس عن وجود أربعة أسرى يعرض حكومة نتنياهو إلى إمكانية فشل مسعاها السابق الخاص بتحييد ضغط الجمهور الإسرائيلي، فعدم الشفافية وتجاهل أسرى أخريين قد يفتح الباب أمام مسائلة الحكومة عن تفضيلها لبعض الأسرى عن البعض الأخر، فيذكر هنا أن الجندي "المفقود" -حسب الجانب الإسرائيلي- ابراهام منجستو، لم يُعلن عن مصيره ولا عن خلفية اختفاءه حتى الأن، وهو ما أعتبره ذويه تمييزاً كونه من أصول أفريقية، فيما تقول تل أبيب أنه قد احتجز بعد الحرب بعد اجتيازه للسياج الحدودي، وذلك بخلاف الجندي الأخر الذي لم تدلى الحكومة الإسرائيلية بأي معلومات عنه، وهي التي أعلنت مؤخراً على لسان نتنياهو عن تطور هام بشأن "المفقودين" بقطاع غزة، وهو ما علق عليه أبو عبيدة في كلمته المتلفزة بأنه "يكذب على جمهوره وعلى ذوي الأسرى". الأن بعد إعلان القسّام عن عدد الأسرى في حوزتها –دون أي معلومات عنهم- فإن هذا قد وضع حكومة نتنياهو من جديد في دائرة رد الفعل؛ فمن ناحية ليس من المتوقع أن يستمر التجاهل الإسرائيلي في الإعلام والدوائر السياسية لمسألة "المفقودين"، ومن ناحية أخرى ستضطر تل أبيب إلى بذل مزيد من الجهد في أن يتوسط طرف إقليمي ما في الضغط على المقاومة في غزة في ملف الأسرى والكشف عن مصيرهم تمهيداً لصفقة تبادل تتم وفق الإمكانيات والشروط الإسرائيلية وتكون على عكس سوابق صفقات التبادل التي أذلت الحكومات الإسرائيلية السابقة. في هذا السياق من غير المستبعد أن يكون التقارب بين تل أبيب وبين دول عربية مثل السعودية مدعاة لأن تلعب المملكة دوراً في هذا الملف والذي يتقاطع مع تحقيق عدة أهداف لها، سواء في تطوير علاقتها المنتعشة مع إسرائيل، أو جذب حركة حماس إليها أكثر وإبعادها عن محور المقاومة وإيران، وأخيراً تطلع المملكة إلى دور قيادي منفرد بشئون قطاع غزة بعيداً عن القاهرة، التي تتعقد أمور الحركة معها مؤخراً، وهو الأمر ذاته الذي تطمح إليه تركيا والتي يصرح مسئوليها مؤخراً عن ضرورة التصالح مع إسرائيل طبقاً لأولويات الأزمة السورية والدور الثنائي الذي قد تلعبه أنقره وتل أبيب في ملفات عدة على مستوى المنطقة، والجدير بالذكر هنا أن إسرائيل كانت قد فضلت الوسيط التركي-القطري على نظيره المصري إبان حرب 2014، وهو الأمر الذي تماهى معه المكتب السياسي لحركة حماس وقتها. وبمد الخط على استقامته، فإن إعلان نتنياهو عن هذا "التطور الهام في ملف المفقودين" ربما أتى عن جهد طرف إقليمي ثالث في هذا الأمر، وبإعلان كتائب القسّام عن حوزتها لأربعة أسرى دون الكشف عن مصيرهم والتشديد على أنه لن يكون هناك معلومات حول مصيرهم فإن ذلك يشي بأن التصعيد الأخير من جانب الكتائب يأتي لقطع الطريق على أي مسار تفاوضي بوساطة طرف ثالث يرغب في تسهيل الأمور على الإسرائيليين بإعلان الكشف عن مصير الأسرى حسب ما لمح إليه نتنياهو في الأسبوع الماضي، وهو ما يؤكد أن الجناح العسكري لحركة حماس حتى الأن بعيداً عن الموائمات الإقليمية التي بدأت بين تل أبيب والرياض وأنقرة. وكاستنتاج عام، فإن إعلان القسّام الأخير قد يكون خطوة أولى في مسار طويل أخره صفقة تبادل بين المقاومة وإسرائيل، ولكن هذا المسار وتعقيداته ستكون وفق تعاطي حكومة نتنياهو مع ملف الأسرى سواء على مستوى تحييد الداخل واستقطاب الخارج، فمع نجاح نتنياهو السابق في الاتجاهين، فإنه لا يبدو أن هذه السياسة ستنجح مع استمرار المقاومة في غزة في فضح هذه السياسة أمام الداخل الإسرائيلي وكذلك قطع الطريق على أي تسوية يرجوها نتنياهو بوساطة طرف ثالث تخالف شروط صفقة تبادل قد تكون الأكبر في تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي.