أثناء سيري في الطريق استوقفني شاب في العقد الرابع من العمر، صافحني بفتور واضح على ملامح وجهه المتجمد، وقال لي دون مقدمات: كنت واحدًا من الذين هتفوا خلفك أثناء مسيرة الخامس والعشرين من يناير، ومن الذين شاركوا في التظاهرات والاعتصامات في الشوارع والميادين خلال الثمانية عشرة يومًا، وقمت باختيارك أنت وباقي شباب الثورة في انتخابات مجلس الشعب، ودعوت كل من أعرفهم من أصدقائي وأقاربي لانتخابكم، رغم عدم معرفتي المُسبقة بأشخاصكم، ولكن كنت أراكم تمثلون الثورة. كنت من الحالمين بعد الثورة أن نُحقق الشعار الذي رفعناه جميعًا في العيش والحرية والعدالة الاجتماعية، أن تستيقظ مصر من سباتها وغفوتها والفساد الذي أنهكها، نتيجة الحكم الديكتاتوري، وكنت متيقنًا أن مصر أخيرًا ستمضي بسرعة فائقة إلى مصاف الدول المتقدمة بسواعد شبابها الذين رفعوا شعار الحرية والمساواة، وسيسود العدل ونقتص من القتلة، لأجل هؤلاء الشباب الذين ضحوا بأرواحهم لكي تنعم مصر بالحرية والتقدم والرخاء. ولكنني الآن أصبحت من الكارهين لثورة يناير وشبابها، للدرجة التي جعلتي أجهر بتلك الجملة التي كنت أنهر كل من يُحاول أن يهمس بها «ولا يوم من أيام مبارك».. نعم ولا يوم من أيام مبارك، فرغم كل مساوئ حكمه، وكل تلك الأسباب التي انتفضنا عليه من أجلها، لم أكن في عهده على خصومة بيّنة بمع قاربي وأصدقائي؛ بسبب انتماءاتهم السياسية. وبرغم سخافة ما سأقوله، ولكن لم أكن مضطرًا أن أضع على هاتفي نغمة «تسلم الأيادي» رغم عدم اقتناعي وكرهي لها، وأن أُزيل كل تلك الصور التي التقطتها أثناء الثورة، وبها كل ذكرياتي؛ لكي لا يستوقفني أحد الضباط في كمين للشرطة أثناء سيري، وأُبرهن له بتلك النغمة أنني معهم، ولست من هؤلاء الإرهابيين من الإخوان، أو من شباب الثورة الذين يُريدون هدم البلاد. في عهد مبارك لم أُشاهد عشرات الآلاف من المعتقلين في السجون، وهذا الكم الهائل من المواطنين يتم تعذيبهم داخل أقسام الشرطة حتى الموت، لم ألمس هذا الانهيار الاقتصادي المُرعب وضيق المعيشة وغلاء الأسعار، والارتفاع الجنوني لسعر الدولار. والأشد إيلامًا أن أرى دماء الجنود تسيل في الكمائن وعلى المدرعات على شريط الحدود، وأرواح الشباب التي تُزهق في الشوارع والميادين، إنها لعنة الدم التي تطارد الجميع. ورغم ضيق الحال ورغم أني لم أكن من الساعين إلى السفر خارج البلاد، رغم ضيق الحال، لم تكن هذه الفكرة تخطر على بالي من الأساس، لكني اليوم أطرق جميع الأبواب لكي أحجز لي مقعدًا على طائرة تقلني خارج هذه الديار الظالم أهلها. انتابتني حالة من الضيق والحزن الشديدين من واقع كلماته القاسية والمؤلمة، وحاولت جاهدًا أن أُلطف أجواء الحوار الذي دار من طَرَفه دون انقطاع، ودعوته إلى شُرب فنجان قهوة لكي أشرح له أن الثورة لم تفعل شيئًا سوى أنها أظهرت الوجه القبيح والقاذورات التي حاول الطغاة الجاثمين على أنفاس العباد أن يُخفوها، ولكي تدق ناقوس الخطر وتُحذر من مغبة إخفائها والعمل سريعًا على إصلاحها. فعند سقوط أي نظام ديكتاتوري، تظهر بسرعة شديدة على الساحة السياسية مشكلات البلاد التي تراكمت على مدى عقود طويلة؛ بسبب سياساتها القمعية، ويُصبح الإرث الذي تركته تلك الأنظمة؛ الفقر والفاقة والجهالة والمشكلات الاقتصادية والبيروقراطية، ظاهرًا جليًّا بمجرد سقوطها، وبالتالي ونتيجة طبيعية فإن الثورة لن تخلق المدينة الفاضلة ولن تُحقق العدل والحرية والديمقراطية بمجرد قيامها، هذا بخلاف الثورة المضادة والتي تسيطر على أركان الدولة العميقة، وتعمل بلا كلل أو ملل على وأد الثورة، وتجتهد لتحافظ على مصالحها المرتبطة ارتباطًا مباشرًا بوجود رأس النظام، لذلك تعمل على بث الفرقة بين أطياف الشعب، وهدم أي محاولة للقضاء على الفساد أو النهوض بالبلاد. في كتاب «تجارب ست ثورات» لمنير شفيق يتحدث عن المشترك العام الذي يشير إلى ما تواجهه أغلب الثورات، عادة، إن لم يكن كلها، من مراحل انتقالية تتسم بالفوضى والانقسامات والفتن والحروب، وحروب التدخل، يُظهر كم كان وصف «الربيع العربي» لما حدث من ثورات عربية عام 2011، وصفًا لا علاقة له بمعرفة أو قراءة موضوعية، وإنما ذهب إلى وصف وهمي، متخيل غير مطابق. فالثورة أي ثورة لا يمكن أن توصف بالربيع حتى من خلال «فنان سُريالي»، وكذلك حال الفترة الانتقالية. فالثورة شكل من أشكال الحرب، والثورة صراع تتولد عنه مآس وكوارث إنسانية، فكيف تكون ربيعًا؟! وكذلك الحال في مرحلتها الانتقالية. ولكن حين يسقط وصف الربيع عن الثورة فلا ينبغي لأحد أن يستخدم ذلك حجة لإسقاط صفة الثورة من حيث أتى، عن الثورة. وهذا ينطبق على الوصف الذي أطلقه الرئيس الأمريكي باراك أوباما، زورًا ونفاقًا، على ثورتي تونس ومصر، وقد راح يتهاوى أمام الذي تشهده المرحلة الانتقالية من عواصف وصراعات وتعقيد، فإذا نحن لسنا أمام مرج أخضر وأزهار ناعمة ونسائم عليلة. لذا يجب علينا أن نتكاتف للقضاء على منظومة الفساد، والحكم الشمولي، وأن نتعلم من أخطاء الماضي، عن طريق ظهور تيار ديموقراطي عريض، يعلي من أولويات بناء دولة القانون والمؤسسات، ويؤجل خلافاته الأيديولوجية إلى ما بعد بناء هذه الدولة التي ستمثل إطارًا مناسبًا لأي تفاعلات سلمية حول المسائل الكبرى، وأن نتخذ جميع الإجراءات الوقائية للحيلولة، دون ظهور نظام قمعي جديد، وبناء الأُطر القانونية والدستورية ومعايير السلوك الديمقراطي القويم، هذا التيار هو الذي سيجمع الشعب، ويكون قادرًا للضغط على مؤسسات الدولة العميقة لتحقيق أهداف الثورة وترجمة مطالب الشعب في العدالة والحرية والكرامة.