تحتل قضية الهوية مكانة مهمة بين إشكاليات الفكر العربي المعاصر؛ نظرًا لنشأة هذا الفكر في رحم مستعمرات الغرب الحديث، حيث تشكل الغرب في وعي المفكرين العرب كمصدر للتقدم وللتهديد في آنٍ، فظهرت هذه الازدواجية (أو الانتقائية) في التعامل مع المنجز الغربي المدني والحضاري بثنائية علوم الوسائل التي يمكن استيرادها، وعلوم الغايات التي لا يجب أن تؤثر على هوية المسلمين (والعرب كذلك فيما بعد سقوط الخلافة). وقد طرحت عدة اتجاهات متباينة إسلامية وعلمانية مسألة الهوية للتأكيد على ضرورة حفظ هوية حضارية خاصة، وخاصة الاتجاهات الإسلامية والقومية. كما حاولت غيرها التأكيد على هوية بديلة عن الإسلامية والعربية هي المصرية أو المتوسطية كما لدى طه حسين مثلًا. كما تنوعت المسائل النظرية المشتبكة مع سؤال الهوية، ولكن تبرز على قمة هذه المسائل مسألة ثنائية العلماني/الإسلامي. كان الظهور الأول ربما لهذه الإشكالية في كتابات رفاعة الطهطاوي بعد بعثته إلى أوروبا، ممثلة في (مناهج الألباب المصرية في مباهج الآداب العصرية)، حيث عرضت الاختلافات التشريعية بين الإسلام والغرب، وأُقر بضرورة الأخذ بعلوم الوسائل خلافًا لعلوم الغايات. وكان الطهطاوي أطروحة أوّلية مركَّبة للفكر العربي الحديث، الذي انقسم من بَعده إلى تيارات علمانية (ربما يكون أول تجلياتها عبد الرحمن الكواكبي)، واتجاهات إسلامية إصلاحية (الأفغاني ومحمد عبده)، وهو ما أدى إلى تشكل ما يعرف بإشكالية التراث والحداثة في الفكر العربي الحديث. وقد مرت العلمانية كأطروحة نظرية بعدة مراحل من التطوير، كان أكثرها تنظيرًا في العقدين الأخيرين من القرن العشرين، حيث برزت ثلاث أطروحات متعارضة بين داعية للعلمانية باعتبارها نظرية في المعرفة (وليست مجرد إصلاح سياسي ومؤسسي) عند مراد وهبة، وناقدة للعلمانية باعتبارها نظرية في القيمة النسبية واللا قيمة عند المسيري، وتأصيل للعلمانية في التراث الإسلامي لمحو ثنائية العلماني الإسلامي عند حسن حنفي. وإذا كان حنفي قد انتقد فعلًا ثنائية العلماني/الإسلامي ودعا إلى تذويبها باستراتيجية طرحها تفصيلًا في كتابه (التراث والتجديد)، لكنه دعا في السياق نفسه إلى تأكيد هوية إسلامية عربية ذات خصوص، ضد الانبهار الساذج بالمنجز الحضاري الغربي ومحاولة تقليده غير النقدي، مما أعاد تغذية الثنائية التي استهدف هو نفسه تفكيكها. وقد أدت هذه المحاولات رغم تعارضها في المناهج والغايات إلى بلورة العلمانية كأيديولوجيا مع أو ضد أي أن العلمانية في العالم العربي تحولت إلى (هوية) للأنا أو للآخر داخل الوطن الواحد، مما أدى عبر مراحل تكوينية نظرية ومجتمعية إلى تشكل العلمانية ك(طائفة) جديدة تنضاف إلى قائمة الطوائف المتصارعة العرقية والدينية والمذهبية في العالم العربي، حتى وصل الصدام بين الأطروحتين: العلمانية والإسلامية إلى أقصى مداه في مصر في الخمسينيات، والجزائر في التسعينيات، ثم مصر مرة أخرى في 2013، وتونس منذ ثورتها الأخيرة (بشكل أقل حدة). وإذا كانت ثورات الربيع العربي قد اندلعت لإدراك مطالب اجتماعية وسياسية وحقوقية، فإن هذه العملية الثورية التي قامت بها كتلة شعبية متباينة ومتآلفة سرعان ما تحولت في أشهر قليلة إلى صراع طائفي أو أيديولوجي (مصر وسوريا نموذجين) بين أطراف متناوئة، الأمر الذي أدى إلى تزييف مطالب الثورات، وتحويلها من التركيز على التفاوت الطبقي بشقيه السياسي والاقتصادي إلى التركيز على الصراع الطائفي والأيديولوجي، مما أدى بدوره إلى تزييف الثورات ذاتها بعد أن اندلعت فعلًا، فتحولتْ إلى كوارث؛ نظرًا لأنها فجّرت العنف والعنف المضاد لأهداف ليست من مطالب جماهيرها الأصلية الأولية في شيء. وفي النهاية تحولت الثورات إلى ثورات مضادة؛ فحين تحولت الثورة الاجتماعية والسياسية إلى صراع طائفي، استفادت النظم القديمة من ذلك الصراع لتعزيز وجودها وإعادة إنتاجه. ويبدو أن طرح العلمانيين العرب عمومًا لأطروحتهم قد ساعد على تبلور العلمانية كطائفة وهوية جديدة في منطقة تزدحم بالهويات حد الاختناق؛ فقد طرح العلمانيون العرب قضيتهم باعتبارها (تنويرًا) وليس باعتبارها مشروعًا تشريعيًّا إصلاحيًّا عمليًّا، مما أدى إلى استعداء الاتجاهات المناوئة لتستعمل سلاح الهوية الجاهز. وفي مرحلة مراد وهبة بالذات تم التركيز على العلمانية بما هي علمانية، دون استهداف مشكلات اجتماعية ومطالب سياسية وحقوقية محددة. وقد أدى الطرح التنويري المثالي للعلمانية في العالم العربي إلى تهميش قضية التفاوت الطبقي، مما أدى إلى تهميش القضية الاجتماعية بأسرها. إن الانغلاق أو الانفتاح الفكريين لا يرجعان سببيًّا للدين (فالمسيحية تطورت في أوروبا وأمريكا أكثر من روسيا مثلًا وبولندا، والكاثوليكية لم تكن أقل تسلطًا وشموليةً من الأرثوذكسية)، بل يرجع إلى علاقة الدين بالدولة ومعارضيها بما هم سلطة، بما يعني أن الدولة (ومعارضيها كالإخوان في مصر) هي السبب وليس الدين، والدليل على هذا أن الدين تغير في مصر مثلًا عدة مرات: من ديانات مصرية قديمة لمسيحية، ومن مسيحية لمسيحية وإسلام، ومن إسلام سني إلى إسلام شيعي إلى سني مرة أخرى، لكن الدولة بقيت على حالها في الأعم الأغلب منذ الفراعنة حتى اليوم، بما في ذلك علاقتها الانتفاعية بالدين. هذه العلاقة منعت أي تطوير مهم للدين؛ لأن أي تطوير له نحو حقوق الإنسان أو العدالة الاجتماعية لا يخدمها كسلطة، وبالتالي احتفظتْ بالرجعيين فوق الكراسي (دينيين وعلمانيين) وحاربت المفكرين المعارضين، منذ محمد عبده وعلي عبد الرازق إلى نصر أبو زيد. وربما كان الأجدى فضح الممارسات الأيديولوجية التي تمنح الاستبداد غطاءه الأيديولوجي سواءً من الطرف الإسلامي أم الطرف العلماني، والتركيز على القضايا الاجتماعية، وتنحية خطاب الهوية ومضمونه، وفهم أن الفصل بين الدين والدولة قد يحرر الدين من إفساد الدولة، لكنه لا يصلحه بالضرورة، كما أنه لن يصلح العلمانية، التي ستستمر كأداة أيديولوجية للدولة. نحن نحتاج إلى إصلاح ديني وعلماني معًا.