أراد لرومانيا أن تكون مسرحًا كبيرًا يلعب على خشبته دور البطولة المطلقة، ورضي لجميع من يحيطونه بأدوار ثانوية، مجبرًا الشعب على التصفيق والتهليل لبراعة أدائه وعظم موهبته، ثم جاءت النهاية على غير ما يحب بعد تمرد الجماهير، واعتلائها خشبة المسرح لتُنهي حياة بطلها الذي طالما هتفت باسمه! لم يكن الرئيس الروماني "نيقولاي تشاوشيسكو" مكروهًا من شعبه على الدوام، فمعارضته احتلال السوفييت لتشيكوسلوفاكيا في أغسطس 1968، وورفضه هيمنتهم على رومانيا جعلت منه بالسنوات الأولى لحكمه بطلًا شعبيًّا، استغرق الديكتاتور بعدها في بناء مجده الشخصي فقمع كل صوت للمعارضة، وسَخَّر الشعب في عروض مسرحية ضخمة تمجد حكمه وتقدس له، واندفع مستنزفًا الاقتصاد الروماني في مشروعات بناء ضخمة، أبرزها ما سمي بمركز الحقوق المدنية (the civic center) وهو أشبه بعاصمة إدارية جديدة في قلب بوخارست، أزال من أجل بنائها مناطق سكنية كاملة تضم آلاف المنازل وعشرات الكنائس والمستشفيات، وضم المركز قصرًا هو الأضخم بالعالم، وثاني أكبر مبنى إداري بعد البنتاغون الأمريكي. النخبة الرومانية أيدت وباركت الديكتاتور، وتبارت في كسب رضاه ورضا زوجته إلينا، التي شاركته الحكم، أما الإعلام فلم يبث إلَّا ما أراد الطاغية أن يصدره للناس. في عالم "تشاوشيسكو" كان كل شيء براقًا، النظام يخطط ويوجه لإقامة مشروعات تنموية ضخمة، والشعب يعمل بهمة على تنفيذها، والاحتفالات المبهجة تعم البلاد مع كل عيد وطني، بما فيها عيدي ميلاد "تشوشيسكو" وزوجته "إيلينا"، أما الواقع فقد خاصم هذه الصورة المزيفة. استدان "تشاوشيسكو" مبالغ طائلة من صندوق النقد الدولي للصرف على تهويمات عظمته، وفي أوائل عقد الثمانينيات أضحت خدمة هذا الدين عبئًا مخيفًا على الاقتصاد الروماني المتواضع، فاتجه الطاغية إلى تصدير معظم إنتاج البلاد الزراعي والصناعي لسداد الدين وفوائده ومنع الاستيراد، عدا السلع الفاخرة له ولمقربيه، وعمم نظام الحصص للحصول على الغذاء في رومانية كافة باستثناء العاصمة، وتراجع الإنفاق الحكومي على التعليم والصحة والإسكان والخدمات المختلفة، وانخفضت الطاقة وتوقف نظام التدفئة المركزي، وتجمد الرومانيون بردًا وخوفًا من القمع الوحشي لجهاز الشرطة السري، الذي لم يكن يسمح، رغم كارثية الأوضاع، بأدنى نقد للنظام ورئيسه. وفي العام 1987 اندحر خوف الناس على أعتاب معاناتهم فأضرب العمال، وقوبل إضرابهم بقمع وحشي من جانب أجهزة أمن "تشاوشيسكو"، إذ أمرهم بإطلاق النار على المحتجين، ما أدى لسقوط عشرات القتلى. تجددت المظاهرات بعدها بعامين، ففي 15 أغسطس 1989 اندلعت تظاهرة كبرى إثر موعظة لراعي كنيسة بروتستنانتي، وجه فيها نقدًا عنيفًا لتشاوشيسكو. تصدى الأمن للتظاهرة واشتبك مع المشاركين فيها، واستطاع فضها في ذلك اليوم، لكنها سرعان ما تجددت في الأيام التالية، وامتددت على طول البلاد وعرضها لتفشل قوات الأمن في احتوائها، واستولى المتظاهرون على أسلحة القوات، وعند هذا الحد استُدعي الجيش، لكن مجنديه رفضوا إطلاق النار على المتظاهرين، الذين حاصروا قصر تشاوشيسكو، واستطاعوا القبض عليه وإعدامه بعد محاولة فاشلة للهرب. الخطيئة الكبرى التي ارتكبها ثوار رومانيا تمثلت في إبقائهم على النخبة التي روجت لتشاوشيسكو وتهويماته، وسايرته في كل ما ذهب إليه، فأعانته على خداع البسطاء الذين انساقوا طويلًا لشعاراته الوطنية الجذابة، ومثلهم شاعر النظام الرسمي باونسيو الذي كتب يهجو نفسه بعد سقوط "تشاوشيسكو": ككل ضعيفي القيم والأخلاق مدحته بلا فائدة المهرج الكبير القائد الذي ولد من جديد وبنصف انحناءة..لحست مؤخرته عش طويلًا محبوبنا نيقولاي.. وبجانب هؤلاء حافظ كبار المسؤولين على وظائفهم، واستمر قادة الأمن بمواقعهم، لترتد الكرة على الثوار، وكما تمنى باونسيو، عاش "تشاوشيسكو" عبر نظامه طويلًا؛ لأن الثائرين عليه وعلى حكمه لم يقطعو ألسنة "لاحسي المؤخرات" وأيدي معاوني الطاغية، فانقلب الوضع ضدهم، ليُسحق اعتصام أقاموه على أيدي عمال "أليسكو" مساعد "تشاوشيسكو"، الذي أضحى بعد خلع الطاغية رئيسًا لرومانيا، وصوره "لاحسو المؤخرات" إلى الرومانيين على أنه ممثل الثورة الأمين عليها، ليحيا مفجروها والمؤمنون بها في عزلة عن المجتمع بعد أن حملهم يومًا على الأعناق، وهتف باسمهم في الميادين! الحكمة التي يمررها التاريخ إلينا عبر حوادث الثورة الرومانية أنه: على الغافل لا الباغي تدور الدوائر! [email protected]