العثمانية الجديدة بين أردوغان وأوغلو اختلف أو اتفق مع المسار السياسي لحزب العدالة والتنمية في تركيا ومؤسسه رئيس الحكومة السابق ورئيس الجمهورية الحالي رجب أردوغان، ولكن لن تجد مفرا من الإقرار بنجاحه في كسب الرهان محليا وإقليميا ودوليا، حيث راهن كثير من السياسيين والباحثين مرة تلو أخرى طوال نحو14 عاما على إخفاق الحزب، بيد أنه في كل مرة يثبت العكس في الانتخابات بأنواعها، المحلية والبرلمانية والرئاسية، حيث اعتاد احتكار الفوز بها ديمقراطيا طوال تلك السنوات. ومخطىء من يظن أن الحزب فاز في تلك الانتخابات بأصوات المنتمين إليه وما يمثله من توجه إسلامي فحسب، بل إن قاعدته التصويتية تضم نسبة من التيار العلماني واليساري، ومرد ذلك لا علاقة له بالتوجه الإسلامي للحزب، بل بنجاحه في أمرين أساسيين، أولهما إنقاذ الاقتصاد التركي الذي كان قبيل تولي الحزب في مطلع هذا القرن على شفا الانهيار مثل الجارة اليونان، والنهوض به بشكل لافت حتى أصبحت تركيا القوة الاقتصادية رقم 6 أوروبيا و16 عالميا، وثانيهما أن انفراد الحزب بتشكيل الحكومة أدى للاستقرار السياسي الذي افتقده المواطن التركي طوال نصف قرن تخللتها المشاحنات الحزبية نتيجة الحكومات الائتلافية المتعاقبة المتناحرة. بيد أن ثمة سببا آخر لا يقل أهمية، وهو أن الحزب لم يلجأ لترويج حضوره السياسي إلى الشعارات الإسلامية ولم يتبن أردوغان أولويات أستاذه مؤسس التيار الإسلامي السياسي في تركيا الراحل أربكان، في قضايا كالحجاب والتعليم الديني، بل إن أردوغان جاهر بأن تركيا دولة علمانية، بيد أنه وعبر هذا الشعار البراق الذي يدغدغ مشاعر بعض العلمانيين، سعى بذكاء إلى خدمة هذه القضايا تحت شعارات غير إسلامية، وهي الحرية الشخصية والعدالة القضائية التي تكفلها الديمقراطية، وهذا بعض ما فشل فيه حزب الحرية والعدالة في مصر في السنة التي تولى فيها الحكم. وإذا كان أردوغان هو قائد مسيرة حزب العدالة والتنمية، فإن عقله المفكر هو رئيس الوزراء الحالي أحمد داود أوغلو، عراب ما أصبح يعرف في الأدبيات السياسية بالنزعة العثمانية الجديدة، والتي تستهدف العودة التدريجية لتركيا للتأثير في محيطها الإقليمي والعربي مستلهمة ميراثها التاريخي في تلك المنطقة، فقد ظل أوغلو المستشار الخاص لأردوغان منذ تولي الأخير رئاسة الحكومة في 2002 وحتى 2009، حين عين وزيرا للخارجية، ليصبح حبر الدبلوماسية التركية خليفة لأردوغان في رئاسة الحكومة في أغسطس الماضي، ليس ذلك فحسب، بل سبق ذلك بالتمهيد بخلافته في رئاسة حزب العدالة والتنمية التي فاز بها مجددا في الاقتراع الذي جرى الشهر الماضي. وأوغلو وهو الأستاذ الجامعي في العلاقات الدولية عبر عن أشواقه حول العثمانية الجديدة في كتابه "العمق الاستراتيجي: موقع تركيا ودورها في الساحة الدولية"، وأتاح له موقعه الدبلوماسي والحزبي والسياسي التحول من ميدان النظرية إلى ميدان التطبيق، ونجح في تطبيق الشعار الذي رفعه وهو "تصفير المشكلات" مع الجيران، ولا سيما اليونان بشأن قضية قبرص، وكذلك كان قد بدأ حصد نقاط في تصفير المشكلات مع الجيران في المنطقة العربية، وخاصة مع مصر وسوريا. ولكن مع تتابع ثورات الربيع العربي، تراجعت النقاط إلى مادون الصفر على خلفية بروز النزعة الإسلامية لأردوغان في التعامل مع تداعيات ثورات الربيع العربي التي آلت إلى ما لا يشتهي، وهنا تجب الإشارة إلى تباين نسبي في المنطلقات بين كل من أردوغان وأوغلو فيما يتعلق بترسيخ النزعة العثمانية الجديدة، فأردوغان منطلقه إسلامي، مستحضرا أشواقه إلى إحياء الخلافة الإسلامية، وإن لم يصرح بذلك، ولكن واقع الحال يغني عن المقال، فيما أوغلو منطلقه أقرب إلى النزعة القومية التي تسعى لإحياء تراث الأجداد المؤسسين للإمبراطورية العثمانية مترامية الأطراف. ومن موقعه الجديد في رئاسة الحزب معززا برئاسة الحكومة، من المرجح أن يحاول أوغلو إعادة صياغة علاقاته مع الجوار العربي وترميم سياسة تصفير المشكلات التي أصابها العطب، ولاشك أن أردوغان سيعيق هذه المساعي من موقعه كرئيس للجمهورية، فهل ينجح أوغلو في الرهان والإفلات من وصاية أردوغان؟، أم يكون دمية في يده كما يردد خصوم الاثنين؟، الشهور القادمة حبلى بالإجابة. [email protected]