حين دعت تركيا إلى الاحتفال رسميا وشعبيا بذكرى وفاة الصوفي العظيم والفقيه والشاعر مولانا جلال الدين الرومي (قبل نحو ثمانية قرون) فإن الدعوة أثارت شكوك البعض. لم يستغرب أحد كون الرجل فارسي الأصل، لأنه عاش في كنف السلاجقة الأتراك ومن ثم اعتبر «روميا»، ثم إنه دفن في مدينة قونية التي جرى فيها الاحتفال، ولكن بعض المراقبين رأوا فيها تعبيرا عن الميول العثمانية لدى القيادة التركية الحالية. وكان في مقدمة هؤلاء الأستاذ ميشيل كيلو. الكاتب السوري البارز، الذي عبر عن ذلك الموقف صراحة في مقالة نشرتها له صحيفة الشرق الأوسط (في 6/1) ذكر فيها أن الاحتفال لا يعبر عن تحول من جانب القيادة التركية الراهنة إلى الدروشة والزهد. وإنما هو في حقيقته «غلالة شفافة تستر جسدا إستراتيجيته تفتقر لأي نوع من التواضع، تعدنا بالعثمنة»، وما تستصحبه من تطلعات إمبراطورية تستهدف تحويل العالم العربي إلى مستعمرات عثمانية. هذه الفكرة ليست جديدة، ولكنها تتردد بين الحين والآخر في أنحاء العالم العربي على ألسنة بعض الكتاب والمثقفين المشارقة منذ ثلاث سنوات تقريبا، فضلا عن أنها متداولة في السجالات السياسية التركية منذ تولي حزب العدالة والتنمية للسلطة منذ عشر سنوات (في عام 2003) لماذا؟ قصدت الإشارة إلى موقف الكتاب المشارقة، لأن دوائر الباحثين في شأن الدولة العثمانية يعرفون جيدا أن موقف المشارقة إزاءها يختلف عن موقف نظرائهم المغاربة. فالأولون يعتبرونها احتلالا لبلادهم ولا يذكرون لها سوى صلف وعجرفة بعض الولاة ومجازر جمال باشا في الشام. أما المغاربة فهم يعتبرون الدولة العثمانية درعا لهم، حافظ على استقلالهم وقام بحماية بلادهم أمام الغزو الأوروبي. وبسبب من ذلك دأب المشارقة على إساءة الظن بالعثمانيين، في حين أن موقف المغاربة على العكس من ذلك تماما. من ناحية ثانية فإن العثمنة وما توحي به من محاولة لاستعادة سلطان الدولة العثمانية، ظلت نائمة طوال العقود التي أعقبت إلغاء الخلافة في مستهل عشرينيات القرن الماضي. لكنها أوقظت وتم استدعاؤها في أعقاب فوز حزب العدالة والتنمية وتوليه السلطة، منذ ذلك الحين استخدمت في تشويه تجربة الحزب ووصف رئيس الجمهورية عبد الله جول ورئيس الوزراء رجب طيب ورفاقهما بأنهم «العثمانيون الجدد» في رسالة تخويف للداخل والخارج. هناك سبب آخر مهم دفع معارضي أردوغان إلى الترويج لفكرة العثمنة، يتلخص في أن حكومته سعت منذ تسلمها للسلطة إلى وقف اضطهاد طلاب المدارس الدينية ومحاولة إنصاف الأقليات، خصوصا الأكراد الذين عانوا كثيرا في ظل حكم الحكومات العلمانية وضغوط غلاة القوميين الذين رفضوا الاعتراف بخصوصية هويتهم القومية، وكان الأكراد وغيرهم من الأقليات يتمتعون بالمساواة مع غيرهم في ظل الدولة العثمانية. لذلك وصفت محاولات أردوغان بأنها دعوة إلى العثمنة. يضاف إلى ما سبق سبب ثالث تمثل في انفتاح حكومة حزب العدالة والتنمية على العالم العربي والإسلامي، ومحاولتها مد الجسور وإلغاء تأشيرات الدخول مع العالم العربي بوجه أخص، في تجاوز للسياسات التي اتبعتها الحكومات السابقة التي دأبت على توثيق العلاقات مع العالم الغربي، وفي إعلان ضمني عن أن تركيا أمامها بدائل وخيارات أخرى. ولن يوهن من عزمها رفض انضمامها للاتحاد الأوروبي. وقد اعتبر ذلك التوجه قرينة أخرى استند إليها الناقدون في وصف فريق أردوغان بانتسابه إلى العثمانيين الجدد. هذا الوصف تردد خارج حدود تركيا، خصوصا على ألسنة بعض المسؤولين الفرنسيين في عهد الرئيس السابق نيكولاي ساركوزي، عندما لاحظ أولئك المسؤولون تمدد الأتراك في شمال إفريقيا، الأمر الذي أثار امتعاضهم في باريس، فوصفوا الأتراك بأنهم العثمانيون الجدد، وهو ما أثار حفيظة المسؤولين في أنقرة الذين يدركون أن فرنسا لها موقفها المتشدد الرافض لانضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي. إزاء هذه الحملة انتهز وزير الخارجية التركي أحمد داود أوغلو مناسبة لقاء رتب له مع نواب حزب العدالة والتنمية في أنقرة (في 24/11/2009) وأعلن: يقولون إننا العثمانيون الجدد. نعم نحن العثمانيون الجدد الذين نعتز بإرث بلادنا. ونحن ملزمون بالاهتمام بالدول الواقعة في منطقتنا، وبالانفتاح على العالم من حولنا بما في ذلك شمال إفريقيا. أضاف أن الدول الكبرى تتابعنا بدهشة وتعجب، خصوصا فرنسا التي تفتش وراءنا لتعلم لماذا ننفتح على شمال إفريقيا. وأخبر سامعيه بأنه أصدر تعليماته لوزارة الخارجية بأن يجد ساركوزي كلما رفع رأسه في إفريقيا سفارة لأنقرة يرتفع عليها العلم التركي. حين قال أحمد داود أوغلو هذا الكلام، التقطته بعض الأبواق وما برحت تذكر به في كل مناسبة، وتقدمه بحسبانه اعترافا صريحا من الرجل بالدعوة إلى العثمنة. علما بأن الرجل رفض انتسابه إلى العثمانيين الجدد حين عين وزيرا للخارجية عام 2008، وقال إنه يفضل أن يوصف بأنه صاحب سياسة إنهاء المشكلات و«تصفيرها» على حد تعبيره. الطريف أنني سألت السيد أردوغان عن العثمانية الجديدة في حوار نشرته جريدة «الشروق» في 8/12/2009 فكان رده أن المصطلح مغلوط ولا أحبذ استخدامه. وهو تعبير يبتسر الماضي وينتقص من قدره. كما أنه يستدعي إلى الذاكرة مرحلة اندثرت ولا سبيل إلى إحيائها. وإن جاز لنا أن نتعلم من دروسها ونستفيد منها. لقد انتزع غلاة القوميين والعلمانيين المصطلح من سياقه ووظفوه لصالح تصفية حسابهم مع المرحلة العثمانية. ليس ذلك فحسب، وإنما أساءوا الظن أيضا بالعالم العربي، الذي تعاملوا معه بحسبانه جثة هامدة بوسع أي أحد أن يعبث بها فيضمها إلى سلطانه ويحول دوله التي انتفضت شعوبها وأثبتت حضورها إلى إمارات تابعة للخليفة العثماني. لقد أوقعهم سوء الظن في غلط التأويل الفاسد والتبسيط المخل. نقلا عن صحيفة الشرق القطرية