الأزهر الشريف هو أحد الأدوات الهامة لقوة مصر الناعمة، ومن أعظم مظاهر الإسلام الحضارية، ومنبره الديني الوسطى، فتأثير الدور المصرى هو بالأساس تأثير حضاري ثقافي، وسائر الأدوار الأخرى تترتب عليه، وقد لعب الأزهر أدوارا عظيمة على امتداد تاريخ مصر، وفي مواجهة الاحتلال الفرنسي، ثم الإنجليزي، وكان لعلمائه دورهم الكبير في الدفاع عن الهوية المصرية والعقيدة الإسلامية والاستقلال الوطني. لكن تم إضعاف دور الأزهر عن سابق إصرار وترصد، وتم إقصاؤه طوال ثلاثة عقود في عهد المخلوع غير المبارك، فغاب عن المشهد تماما، وتراجع دوره نتيجة بعض النوايا السيئة لأصحاب القرار في ظل محاولاتهم تطويع الأزهر، وإلحاقه بالنظام السياسي، وكرس هذا الغياب الأزهري عن المشهد العام في مصر افتقار الأزهر للاستقلال المالي، وخاصة بعد قضم أوقافه وإلحاقها بالدولة وتقليص صلاحياته، وأدى تراجع تأثير المنهج الوسطي للأزهر انعكاسا لهذا الإقصاء إلى ترك الساحة نهبا لبعض دعوات الغلو والتطرف والتشدد، ولقي التيار السلفي دعما لامحدودا من الدولة بعهد مبارك في ظل حرصه على عدم إغضاب المملكة العربية السعودية الراعي الأول للسلفيين في مصر، كما تم استخدام هذا التيار ولايزال يتم استخدامه من بعض الأجهزة كأداة لتحقيق أهداف سياسية. وجاءت ثورة يناير لتمنح قبلة الحياة لمؤسسة الأزهر، وبدأ ينهض من كبوته وانحسار دوره، ليلعب دورا متناميا في المشهد الدعوي والسياسي في مصر، وبدا ذلك واضحا في بيانات ووثائق عدة أصدرها الأزهر بتوافق مع العديد من القوى الاجتماعية والسياسية، الأمر الذي بشّر بدور قوي وفعال لتلك المؤسسة الإسلامية العريقة، ليس على المستوى المحلي فحسب، بل على المستويات العربية والإسلامية والدولية كذلك. إن هذه الوثائق والمبادرات للأزهر الشريف كانت بحق لله وللحرية، وأكدت دوره كصوت للإسلام المعتدل، حيث التأمت على أعتابه كافة الأطياف والقوى والأحزاب السياسية والهيئات الاجتماعية ومنظمات حقوق الإنسان، ومؤسسات المجتمع المدني، ومن أهمها "وثيقة الأزهر بشأن مستقبل مصر"، و"وثيقة الأزهر عن منظومة الحريات الأساسية"، و"بيان استكمال أهداف الثورة"، فضلا عن مواقف أزهرية أخرى لدعم الوحدة الوطنية والسلام الاجتماعي في البلاد. وقبل نحو مائة عام أبدع أمير الشعراء أحمد شوقي قصيدته الخالدة عن الأزهر الشريف، والتي جاء مطلعها: قُم في فَمِ الدُنيا وَحَيِّ الأَزهَرا، وَانثُر عَلى سَمعِ الزَمانِ الجَوهَرا، ونظم هذه القصيدة عقب ثورة 1919 بخمس سنوات، وكانت في سياق الحديث عن إصلاح الأزهر الشريف، فهل يعيد التاريخ نفسه؟، فبعد نحو خمس سنوات من ثورة 25 يناير هل من دعوة مماثلة لإصلاح الأزهر؟، ولاسيما مع الدعوات التي تتردد في الفضاء المصري منذ فترة عن الدعوة لتجديد الخطاب الديني، فهل من تجديد لهذا الخطاب في غيبة الأزهر؟، وهل ثمة مؤسسة أخرى مؤهلة لهذا الدور؟. وإذا كان شيخ الأزهر د.أحمد الطيب، قد انبرى عقب ثورة يناير وأطلق العديد من المبادرات والوثائق لترشيد الخطاب الديني من ناحية، ولم شمل القوى السياسية والاجتماعية المصرية من ناحية أخرى، وفي ظل مناخ الفتن الذي تعيشه مصر حاليا، والذي يمطر مبادرات للمصالحة والتسوية من كل حدب وصوب، أفلا يرى فضيلة شيخ الأزهر أن يستعيد دوره في الالتئام ليمحو الصورة التي يرى البعض أنه كان فيها أداة من أدوات الانقسام، أم هل نضب معين "مبادارت ووثائق الأزهر"؟. أدري أن دور الأزهر يرتبط بالحالة الديمقراطية وأجواء الحرية، وأنه كلما انتعشت تلك الحالة واتسعت تلك الأجواء، اكتسب الأزهر استقلالا ونال مزيدا من حرية الحركة، وتفرغ لرسالته دون الارتباط بسلطة، ولا يختلف اثنان أن هذه الحالة وتلك الأجواء شهدت انحسارا نلمسه جميعا، ولكن ينبغي على شيخ الأزهر على الأقل أن يبرىء ذمته وأن يدلي بدلوه مبتغيا وجه الله والدين والوطن، لا وجه سلطة أو منصب أو وثن. [email protected]