قبل أن تقرأ لم أكن على الغيب بضنين، سأروى ما أوحى إلى ولن أكتمه، وأعاهدك بأنك لم تسمعه أو تقرأه من قبل، سأسرد بصدق مايحدث فى حضرة ستنا.. ابتسمت ل«يوسف» محاولًا إخراجه من همومه من جديد، قائلًا: معى وردة لمن تعطيها ل.. لم يبتسم كما توقعت. وعادت نظراته الغريبة إلى الأفق وزفيره المشحون وهو يقول: - «تعددت زياراتى إلى ستنا، وخاطبتها عبر المقصورة مرات عديدة، وكست دموعى مقامها كثيرًا كلما عصرتنى ذنوبى وأنات ضميرى واستقوى على الإنس والشياطين، فلم يكن لى غيرها وسيدنا الحسين ملجأ أستعين بهما على الشدائد».. وعاد يلفنا الصمت من جديد إلَّا من صوت حفيف الأشجار على الكورنيش وأسفل السور الملاصق للمياه، التى غاص فيها ببصره.. وبدأ يقول: «كنت أقف منتظرًا أحد أصدقائى، كان ذلك فى الصف الأول الثانوى بجوار رصيف مقهى (التجارية) فى شارع بورسعيد أمام محطة أتوبيس مستشفى الجمهورية». كانت الطالبات يأتين من كل اتجاه للدخول إلى مدرسة «مجدى بيبى هوم للغات» كنت لا أطيل النظر إلى أى منهن أكثر من ثوان أو دقيقة بالكاد لسببين، الأول لأن النظرة الأولى لك والثانية عليك، فكنت أتنعم وأملأ عينى من النظرة الأولى وأسرع بالتفحص حتى حذاء الفتاة.. والسبب الثانى الخوف الشديد أن تقع عين أى واحدة فى عينى فأذوب خجلًا وخزيًا، خشية علمها أين تتجه نظراتى؟ كنت أفسر حديث «النظرة» على كيفى، وطبعًا عرفت بعد ذلك أن أغلبهن كن يختلسن أيضًا لى ولغيرى النظرات.. ويتحاشين عينى بحرص شديد. كان يأسرنى ويجذبنى للبنات، جمال أعينهن لا شىء آخر ومهما تأنقت أى أنثى لا أهتم ولا تجذبنى، كنت أقهر أصحابى بعبارة.. كلهن «واحدة».. وأنها بنت ناس بقيمة حذائها فقط.. كنت أجمع فى وقفتى مئات العيون، وأدخر جمالهن فى عقلى، وأفكر فيهن، وكانت هناك فتاة تطول رموشها بشكل آسر كانت فاتنة، ومثيرة جدًّا، ولكنها كانت دائمًا تسير فى سرعة غريبة جدًّا وتلاحق خطواتها وكأنها «روبوت» وأتعجب دائمًا كيف تمشى وتتلفت فى آن؟ كانت رسائل العيون الصباحية مغامرات طويلة.. وذات صباح.. فجأة شعرت بخطوات «سيدة» من خلفى أثناء وقوفى أنتظر أصدقائى للإفطار سويًّا على عربة «عم جلال» الملاصق لمسجد «البرامونى»، على ناصية «حارة التمساح»، «عم جلال» صاحب أجمل طبق فول بالزيت الحار، ثم نتجه إلى مقهى موسى عطية نتبارى فى الدومينو والشطرنج، وكنت بارعًا فى الأخير.. وقوفى كان تشوقًا لطبق الفول، وما يعقبه من طبق «البليلة» الساخن جدًّا باللبن والسكر.. ولكن السيدة وقفت خلفى تمامًا.. ودار بيننا الحوار التالى: - «بست بست.. إنت يا آ».. - طبعًا لم يكن غيرنا فقط فى هذا التوقيت، وعلى هذه الناصية فالتفت فى دهشة وعقلى يدور بسرعة، ربما تسألنى عن عنوان ما أو مكان تتجه إليه.. فابتسمت ووضعت ثلاثة أصابع على ثغرها فى استحياء مصطنع ملأه الدلال لم تخطئه عينى وتيقظت له حواسى فى سرعة.. - «لو سمحت.. أنا آسفة بس أنا مسافرة وبنزل حاجتى والعربية اتأخرت والسواق راجل كبير معهوش حد.. ممكن تساعدنى بس أنزل شنطتى أنا فى الدور الثالث الناصية اللى ورا العمارة خلفك مباشرة».. كانت عينى قد فحصتها مليًّا أثناء حديثها، ولاحظت اللون الأزرق الذى رسمت به جفونها لإخفاء آثار النوم عليها، كانت سافرة الرأس تتهدل خصلة سوداء طويلة على جانب وجنتها اليسرى، يبدو أنها تصنع فى كوافير يحقنها بمادة تجعلها تقع على كل وجوه إناث الأرض كلما رفعنها، وأعلم أنهن يعلمن ذلك ولا يمللن من رفعها وانتظار وقوعها على وجوههن كل ثانية.. طبعًا بما أنى لست شهمًا فقط بل ملك الشهامة مثل كل المصريين، قلت لنفسى فى عجل من يريد إضاعة فرصة اصطحاب أنثى والسلام حتى لو كانت «مدام». - .. «طبعا». وهكذا نقلت قدمى فى اتجاه المسير معها، وكنت فى تجربة ساخنة لأول لقاء منفرد مع امرأة.. كانت نفسى تحدثنى بمائة حكاية ورواية وعبارة منها.. مسكينة لا تعلم ما أدبر لها سأ.. و.. لن أرحمها.. كنت أقول لنفسى على أن أستغل إشارة القدر من دون أدنى خوف، وأستغل الفرصة.. وتحرك نبضى وأنا أسير معها، وخاطبت كل أصدقائى بفم مغلق للحضور بالكاميرات لتصوير البرنس أثناء لهوه أقصد سيره مع سيدة، فى الشارع وتملكنى الزهو ونفخت صدرى بالشهيق الساخن وشفط بطنى وأنا أسير.. بجوارها.. بكل صدق كنت أشعر بحالة غريبة بين الخطر والفوز.. كلما اقتربت خطواتنا فى المسير، وسلكنا سويًّا شارع «الشيخ ريحان» ومررنا بمكتب البريد ووحدة إطفاء عابدين والجراج الخاص بالسيارات التابعة لرئاسة الجمهورية بقصر عابدين واتجهنا يسارًا إلى شارع «باب باريس».. وفجأة ظهرت أمامنا فتاة عشرينية تخطو على عجل وصبغت وجهها بكل الألوان المباعة، كانت عينيها قد اخترقتا من تسير بجوارى، والتى تحولت خطواتها إلى شىء من الدلع.. وهى تبادلها نار النظرات كأنها تسألها من أين ظهرت فى هذه الساعة؟ لم تطل نظراتهما ومرقنا قبل أن تلتوى قدم صاحبة العين المتفحصة والوجه الملون، وبدا وكأن كعبها قد كسر بعد طول تحمله خطوات عصبية مفاجئة. نظرت صاحبتى إليها من أعلى كتفها الأيسر ورمت فى وجهى «مياصة»!.. وهى الكلمة التى بذلت جهدًا سنوات بعد ذلك لأصل إلى معناها الدقيق.. طبعًا ابتسمت مجاملة وتأييدًا لوجهة نظر من لاحظت أنها تمرقنى فى خطفات لم أضبطها فيها، فإذا كان رأيها أنها «مياصة».. فهى مليون «مياصة».. لا مشكلة! كان الطقس باردًا والشوارع بدت وكأن البيوت والسيارات المركونة تنكمش هى الأخرى، حتى القطط والكلاب اختارت تأخير البحث عن طعامها فى هذا البكور.. شارع «باب باريس» يساره مسجد «الملك فاروق» تحفة معمارية نادرة ينفرد بمنبر رخامى وارتفاع سامق لحجارته المنقولة والمقطعة من أكثر من جبل خلاف جبل المقطم.. تقابله بالجانب الآخر ورش صيانة سيارات قصر عابدين الملكية حتى الآن، وتلاصق الورش بيوت قديمة يتفرع منها شارع صغير يعود إلى شارع بورسعيد، حيث كنت أقف إلى أن تظهر منطقة سكنية اشتكت بيوتها من التهالك كانت متواجدة قبل قسم شرطة عابدين الحالى.. لكن من ذا الذى يهتم بالتحف والبيوت والورش أو حتى بالسماء والأرض أثناء صحبته لامرأة؟! وعادت حواسى تنتبه من جديد، ويخرج الشر بداخلى.. وودت لو أضحك بصوت عال من السعادة والنشوة وأنا أتخيل نفسى معها وهى… سأقطعها إربًا، وأرميها فى الزيت وأرشها بالملح والفلفل وأبلعها و.. و.. وفجأة شملنى رعب لا يوصف وكدت أتبول فى بنطالى من الخوف.. ملأ السؤال كل عقلى وطرد كل الأحاسيس الساخنة.. أين زوج هذه السيدة؟ أخوها.. أبوها.. أهلها؟ وبدأت أتأخر فى سيرى، من دون إرادة، وأربكت رأسى خطواتى.. ولاحظت هى فورًا شرودى فوقفت ونظرت خلفها ووضعت يدها فى جرأة فوق كتفى، ووقفنا وهى تسألنى فى ود مصطنع: «مالك؟». رددت فى سرعة الواثق زرع الصحراء تفاح وعنب.. - «لا مفيش.. هو احنا رايحين على فين».. - «ما أنا قلت لك.. معلش ربنا يخليك تعبتك معايا.. البيت قرب.. أول شارع أمامنا أول ما نقطع شارع حسن الأكبر».. عدت للصمت وهدأت أحاسيسى وبدأت أشعر بالطقس البارد الذى كنت أفتح الزر العلوى لقميصى لاستقباله من قُبل، وقلت لنفسى بما أن الشارع خال ولا أحد سوانا سأستغل الفرصة وأتامل فى هدوء مغتنمًا الفرصة التى يجب.. ألَّا تضيع.. واستيقظت الحواس الساخنة من جديد وأنا أسرق النظرات بسلاح وهمى لا أعرفه.. وأخزن فى عقلى.. أين أصحابى الأغبياء يشاهدوننى، أين عدسات المصورين، أين أحبائى وأهل منطقتى من أقرانى يرون الأسد وهو يقود فريسته إلى وكرها باختيارها لإعجابها به، أين جارى وصديقى الصدوق بالسيدة زينب ليشاهدنى قبل لحظات من و.. و..، هل قلت «السيدة زينب؟». استعدت الاسم المقدس فى رأسى ثانية، كوميض برق خاطف، وانقبض قلبى وشعرت بالخوف، وتذكرت وقوفى منذ ساعة أمام المقام أقرأ الفاتحة وأدعو بالستر ونظرت إلى كفى وشعرت بأنه يحدثنى: ألست أنا الكف الذى مسحت بى وجهك عقب زيارتك للمقام؟!! وتسللت إلى أذنى الأنغام أمام المقام، وشدو صوت المنشدين: محمد ضاحكٌ للضيفِ مكرمة ًمحمَّدٌ جارُهُ والله لَمْ يُضَمِ محمدٌ طابتِ الدنيا ببعثتهِ محمَّدٌ جاء بالآياتِ والحِكَمِ محمدٌ يومَ بعثِ الناسِ شافعنا محمدٌ نورهُ الهادى من الظلمِ محمدٌ قائمٌ للهِ ذو هممٍ محمَّدٌ خاتِمٌ لِلرُّسُلِ كُلِّهمِ.. أفقت على صوت من بجوارى تنبهنى بأننا نعبر شارع «حسن الأكبر» منزلقين إلى حارة غريبة لم أطأها من قبل، تخرج منها بعض الروائح العطنة، تبدو كمن خلت من سكانها فى صباح لا أعلم كيف غصت فيه جريًا وراء شهوتى ومشينا تملأنى مشاعر متضاربة عن ضرورة العودة والاكتفاء بالسير فقط، مع من تغير لون بشرتها قليلًا إلى الأحمر وهى ترد تحية عجوز أطلت علينا يظهر شعرها الأبيض ناشزًا معترضًا كل شىء، تفتح شباكها تطل منه وكأنها تتأهب للقفز.. كان تبادل تحية الصباح بينهما سريعًا وبدت صاحبتى وكأنها تتخلص من عبء والسلام.. إلَّا أن العجوز كانت فى ذات العقار الذى ندخل من بابه الخشبى الآن، الذى يصرخ معترضًا ضغط يد صاحبتى التى رأيت يدها وذراعها كاملتين لأول مرة، وبدأ العرق ينفر من حبات جلد ظهرى، وشعرت ببله والتصاقه بثيابى، وانصاع الباب بصرير يوقظ الأموات معترضًا، لكن العجوز دوى صوتها: «هو انت لسه!!.. ربنا يهدى.. ومصمصت فمها وقالت: عجايب!». وكأن صاحبتى مسها جان، وقفت مكانها وفردت ذراعيها باسطة أصابعها فى تحفظ، ونظرت لى وأدارت لى وجهها كاملًا ونحن وقوفًا فى حوش البيت، وعادت تخرج ترد على العجوز: «انت لسانك ده.. الراجل هيساعدنى.. إنت قاعدة وماوراكيش غيرى».. أرسلت العجوز سهمًا آخر: «طب ما أنا قاعدة سنين محتاجة حد يساعدنى ما بيجليش ليه اشمعنى انت اللى بتجيبيهم.. وبيجولك يساعدوك». كنت قد عدت أدراجى خارج الحوش إلى الشارع، وقد أصابتنى حالة من البلادة منكس الرأس، وكأن ما يصوب تجاهى من رماح وقذائف من عبارات لا يعنينى، وفى أقل من لمحة نظرت إلى شارع حسن الأكبر ليمرق ماشيًا فى هذه اللحظة الحاج ابراهيم «المجذوب» الذى رأيته صباحًا أمام محلات الصفا الملاصقة ل«محلات الشريف للبلاستيك أشهر أدوات منزلية فى مصر».. الحاج إبراهيم حدوتة كبيرة غير أنه مجذوب، له حال لا يعرف مخلوق كنهه أو سبب ما ينتابه، ويجلس عادة أمام الداخلين إلى زيارة مقام السيدة زينب ويقف عادةً بعد أن يقطع الرغيف أربعة أجزاء ويرشه دقة لا شبيه لطعمها عند أجود العطارين، ويحسن إليه الميسورون والأغنياء والفقراء أيضًا بما فيه النصيب، وكنت أقصده قبيل الامتحانات أطلب دعاه، الآن الحاج إبراهيم تستوقفنى نظرته.. شلتنى لا بل تجذبنى إليه وهو ينادينى مندهشًا «إنت فين يا أستاذ».. «أولم أرك صباحًا» طبعًا كان هذا ما يدور فى خلدى لا أجرؤ إعلانه.. وعاد المنشدين أمام المقام يعيدون بث سحرهم: مُحَمَّدٌ أَشْرَفُ الأعْرَابِ والعَجَمِ مُحَمَّدٌ خَيْرُ مَنْ يَمْشِى عَلَى قَدَمِ محمدٌ باسطُ المَعْرُوف جَامَعَة ًمحمدٌ صاحبُ الإحسانِ والكرمِ محمدٌ تاجُ رُسْلِ الله قاطِبَة ًمحمدٌ صادقُ الأقوالِ والكلم اتجهت إليه فى خطوات لا أدرى مسرعة أم بطيئة، كم استغرق الوقت لأصبح أمامه؟ لا أعلم، لكنى أقف بين يديه يتأبط ذراعى فى خفة ورشاقة مدهشة لمن هم فى مثل سنه.. حدث كل شىء بشكل آلى وسمعت خلفى صوت صاحبتى ينادينى ملتاعًا كمن فقد عزيزًا أو غاليًا: «إنت ياآ…. هوّ…يا نهار…ياآآ…. انت يا أستاذ… هو انت اسمك إيه». طبعًا جبن العالم كنت مخترعه فى هذه اللحظة، كشجاعة البرص الهارب من «شبشب» الخادم المطارد له على الحائط، فلم أجرؤ على النظر نحوها أو حتى الإشارة وشعرت بأننى أتكئ على الحاج إبراهيم، وهو من يحملنى وسرت على خطوته البطيئة الرصينة، وأكملنا الاتجاه فى شارع «حسن الأكبر» ولم أدرك هل كنت أفتح عينى أم أغلقها، وتحولت المحال والجانب الخلفى لقصر عابدين ومبنى محافظة الجمهورية وإدارة الحرس الجمهورى والشرطة العسكرية ومسجد «الطباخ» ومحطة مترو «محمد نجيب» ومخازن شركة «توشيبا» على الجانب الآخر، وحتى ميدان «أبوظريفة» وميدان محمد فريد.. كل هذا استحال إلى السجاد المميز بالنسيج المنقوش على هيئة قبلة، هو نفسه ما تفترش به أرض مسجد السيدة زينب، وارتفعت أعمدة المسجد فى جنبات ووسط شارع حسن الأكبر وعلى مرمى البصر، القناديل المضاءة نهارًا تتدلى من أعلى، وخشيت أن أنظر فوقى حتى لا يسقط عليَّ، وكلى يقين أنه يتدلى من السحب فى السماء.. ولم أدر هل أقف أمام المقام أستقبله، وانتظر دعوات الحاج «إبراهيم» وهو يمد يده بربع الرغيف المحشو دُقُّة!! أأسير داخل صحن المسجد أم فى وسط البلد.. وبمشيئة الله نستكمل العدد القادم