لا يمكن فصل التاريخ بعضه عن بعض، لكن يؤخذ جملة واحدة حتى نستخلص منه العبر والدروس المستفادة، لذا لا يمكننا النظر إلى شهر مايو على ذلك التاريخ الضيق المتمثل في ذكرى النكبة الفلسطينية 15 مايو 1948، لاسيما أن هذا الشهر نفسه أبى أن يترك لنا هذا الجرح الأليم دون تضميده بانتصار 25 مايو عام 2000 في لبنان واندحار قوات العدو الصهيوني أمام نيران المقاومة. تزامن ذكرى النكبة الفلسطينية والانتصار اللبناني في شهر واحد، ربما لم يحدث صدفة، بل رسالة تؤكد أنه لا سبيل للتحرير والانتصار سوى بالكفاح المسلح، وأنه حتمًا ستنتصر البندقية على الدبلوماسية المتلونة، خاصة إن كان العدو لا يحترم المواثيق والعهود، فضلًا عن هذا المجتمع الدولي ومنظماته التي لا تجد حرجًا في الإعلان عن دعمها ومساندتها لهذا الكيان الصهيوني الغاشم. شهدت الساحة الميدانية الفلسطينية خلال الشهور القليلة الماضية عدة تطورات، أبرزها تلك العمليات الفردية التي يتم تنفيذها من قِبَل المواطنين ضد الاحتلال الصهيوني ورجاله خاصة في مدينة القدس، حيث تمثلت معظم هذه الأحداث في عمليات طعن ودهس تنفذها شخصيات فلسطينية لا تنتمي لأي فصيل مقاوم، بل هي نتاج حالة من الغضب بسبب الاعتداءات والانتهاكات الإسرائيلية المتكررة. باعتراف أجهزة الأمن الصهيونية وتقاريره الاستخباراتية التي تناقلتها وسائل الإعلام الإسرائيلية مؤخرًا، فإن هذه العمليات التي يتم تنفيذها بشكل فردي داخل الأراضي المحتلة ضد المستوطنين وجنود الاحتلال، أشعلت الضوء الأحمر داخل الدوائر السياسية والعسكرية في تل أبيب، حيث تعتبر مرحلة متقدمة من المواجهة، فضلًا عن صعوبة رصدها أمنيًّا والسيطرة عليها؛ لأنه يتم تنفيذها بشكل فردي مفاجئ. هذه العمليات رسالة تأكيد من هذا الشعب الصامد أنه ضاق ذرعًا بالانتهاكات الصهيونية التي يتم تنفيذها بشكل يومي، هذا بالإضافة إلى أنها تشير وبشكل واضح لحدوث بعض التغييرات التي طرأت على الواقع الداخلي الفلسطيني، ولعل هذا التغيير يمثل اللبنة الأولى لاستراتيجية جديدة ستولد مع الأيام المقبلة، مفادها كفى مراهنات دبلوماسية ومفاوضات عبثية لا تسمن ولا تغني من جوع. اكتمل هذا المشهد القاتم بتشكيل رئيس الوزراء الصهيوني نتنياهو حكومته الجديدة، التي جمعت كوكبة من المتطرفين الذين يرون أن الفلسطينيين لا يستحقون الحياة أو المساواة مع باقي شعوب العالم، وهو ما يعني أن الشهور القليلة المقبلة لن تكون هادئة على الساحة الفلسطينية، وأن الأوضاع الداخلية ستشتعل حتمًا، وربما تصل إلى انتفاضة ثالثة تندلع قريبًا. بقي أمر واحد هو ضرورة إدراك الواقع الراهن في منطقة الشرق الأوسط، والاضطرابات التي تشهدها العديد من الدول العربية، فضلًا عن الأزمات المشتعلة إقليميًّا، لاسيما وأن تطورات المشهد الفلسطيني الداخلي ترتبط ارتباطًا وثيقًا بهذه المستجدات الإقليمية، حيث تقف هذه الاضطرابات عائقًا أمام انفجار الغضب الفلسطيني واندلاع الانتفاضة الثالثة، ولعل هذا ما يفسر الدور الذي يلعبه الكيان الصهيوني بمنطقتنا العربية، فهو يدرك تمامًا أن أمنه وسلامته مرهونة باشتعال المنطقة وانهماك دولها في الحروب والصراعات فيما بينها. على ضوء تطورات الوضع في منطقة الشرق الأوسط، وعلى الرغم من تراجع الاهتمام بالقضية الفلسطينية عربيًّا، إلَّا أن الواقع الداخلي في الأراضي المحتلة يحتم الانفجار والذهاب إلى الخيار العسكري والكفاح المسلح؛ لأجل تحرير الأرض وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس الشريف.. حتمًا ستنتصر البندقية على المكائد الصهيونية كافة، لكن حتى تحين هذه اللحظة ويتحقق الانتصار، علينا أن نستذكر نكبتنا ونستخلص منها الدروس التي سنحتاج إليها في حاضرنا الذي نعيشه ومستقبلنا الذي تُرسم خطوطه.