«بدأ مجال الدراسات المستقبلية في الظهور ببطء ومتأخرًا».. هكذا يبدأ الباحث إدجار بول، ورقته البحثية، بعد عامين قضاهما في مركز الدراسات الاستراتيجية في مصر إبان اندلاع ثورة 25 يناير، يرصد ويعاين وضع الدراسات المستقبلية بمركز المعلومات ودعم القرار في مصر، واستشهد الباحث بمقولة الدكتور سيد الصاوي- أستاذ الاقتصاد في 2006، أنه خلال 25 عامًا لم تظهر سوى 4 دراسات فقط. دائما ما تهمل الدولة حتى الآن، دراسة النسق القيمي والاجتماعي، حين اتخاذها أية قرارت مصيرية، بل تركز على الجوانب الاقتصادية فحسب، وهكذا تخرج الدراسات المستقبلية في معظمها. وهو ما ألمح إليه «بول» صراحة في بحثه المشار إليه، إذ يقول "إن أكثر التحديات التي تواجه مصر، هو كيفية جعل سياسات الإصلاح الاقتصادي أكثر إنسانية، لأن إهمال الجوانب غير الاقتصادية، سوف يكرس لثقافة الهزيمة، ويرسخ اعتقادًا زائفًا بأن الجوانب الاقتصادية، أهم من الاعتبارات الإنسانية". في منتصف التسعينات وجه العالم المصري إسماعيل صبري عبدالله، دعوة إلى 16 باحث للمشاركة في مبادرة أطلقها مركز العالم الثالث في القاهرة، لبحث ووضع سيناريوهات لوضع مصر مستقبلا وبيان حالة الإنسان والمجتمع المصري حينها، وذلك بدراسة تاريخ التطور خلال ربع قرن، والاتجاهات العامة السائدة، مركزين العمل على اثنى عشر مجالاً بحثياً يتقدمهم "البيئة والسكان"، وبالفعل عمل الباحثون لفترة طويلة دون دعم من الدولة، وهو ما كان سببًا في توقف المشروع لفترات، مما دفع قادة البحث وفي مقدمتهم الدكتور إبراهيم العيسوي، إلى استكماله على أساس تطوعي، ليكون حجر الأساس للبحث المصري المستقبلي نحو مشاريع مثل بريطانيا 2010، الحلم الأندونيسي، الهند 2020، وغيرها من المشروعات التي شكلت خارطة منهجية لتحولات تلك الشعوب. مسيرة من الجهد العملي تكللت بخروج نسخة مبدأية من مشروع «مصر 2020» ذو الخمسة سيناريوهات، وهي: السيناريو المرجعي/الاتجاهي، ويتصور ما قد تؤول إليه الأوضاع على امتداد 20سنة، إذا ما استمر المنطق الحالى (حينها) فى التعامل مع مشكلات مصر، وليس بالضرورة استمرار نفس الحكام أو نفس السياسات التفصيلية. «الدولة الإسلامية» كان السيناريو الثاني الذي توقعه البحث منهجيًا، ويعكس رؤية القوى التى ترى أن المستقبل يبدأ بقيام نظام حكم إسلامي، يترجم أحكام الكتاب والسنة إلى سياسات للتنمية والتعامل مع الآخر. «الرأسمالية الجديدة» وهو السيناريو الثالث، ويعكس رؤية الجماعات ذات التوجه الرأسمالي الليبرالي، التي تري أن السبيل لبقاء مصر بفاعلية على خريطة العالم، اتباع نظام رأسمالى أكثر رشداً وعقلانية من الرأسمالية المشوهة. «الاشتراكية الجديدة» يعكس رؤية الجماعات التي تعتقد أن الاشتراكية لم تنته بسقوط الاتحاد السوفيتى والكتلة الاشتراكية فى شرق أوروبا، وأنها قابلة للنجاح، بجمعها مع الديمقراطية، ورفض المقايضة بين الحقوق الاجتماعية والحريات السياسية. أما السيناريو الأخير كان «التآزر الاجتماعي» أو السيناريو الشعبي، والذى يعبر عن وجهة نظر قوى مختلفة فى المجتمع المصرى، ترى أن السبيل الأفضل للتقدم هو الوفاق الوطنى والتراضي على حل وسط. في العام 2007 أكد الباحث المصري عبدالمجيد راشد، أن السيناريو الأول هو الذي يمضي فيه نظام «مبارك»، إذ جاء في ورقته البحثية مستقبل سياسة الإصلاح الاقتصادي بمصر: المفارقة المدهشة حقاً، أن هذا السيناريو قد تم الإنتهاء منه في عام 1998، وبقراءة ما جاء على لسان رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء في المؤتمر السنوى الثاني للحزب الوطنى الديمقراطى الحاكم (سبتمبر 2004) فإن المفارقة هنا تكون، على الرغم من دهشتها، مآساوية حقاً، إذ أن التوقعات في السيناريو المرجعى "أو الإتجاهى أو الإمتدادى" قد أصابت كبد الحقيقة وكأنها تقراأ في كتاب مفتوح، سطوحه واضحة، وكلماته مضيئة. بينما يؤكد «راشد» أن أهم سمات نسق القيم في هذا السيناريو، هو إعلاء شأن الفردية، والكسب السريع بغض النظر عن مشروعية الوسائل، وتقوية النزعات الاستهلاكية، وتراجع الاهتمام بالعلاقات الأسرية، والاستهانة بالقوانين واعتبار القدرة على التحايل عليها أقرب إلى الفضيلة منها إلى الرذيلة، كما يغلب على هذا السيناريو الشعور بضعف الثقة في النفس، والإستهانة بالقدرات المصرية والعربية، والتسليم المطلق بتفوق الشمال، واليأس من اللحاق بركب التقدم، ومن ثم التسليم بالوضع الهامشى لمصر على خريطة الاقتصاد والسياسة العالمية كما لو كان قدراً محتوماً لا سبيل إلى الفكاك منه". الآن وبعد مرور سنوات أربع، على سقوط مبارك، والثورة على سياساته التي عبر عنها المؤتمر المشار إليه لحزبه المنحل، يشيع أن الدولة تتجه إلى سيناريو الرأسمالية الجديدة، بخاصة بعد مؤتمر شرم الشيخ الأخير، ويشيع أيضًا استمرار النهج على السيناريو الأول. الباحث «عبده إبراهيم» يقول أنه لا يمكن الجزم بتحقق السيناريو الأول، بخاصة وأن السيناريوهات "فضفاضة"، ولكن جهود بحثية عدة تؤيد استمرار الرؤية العامة والمنظور الحاكم للدولة دون تطوير، خصوصًا وأن الثورة لم تحقق التغيير الجذري الذي كان متوقعا لها، كما أن البيروقراطية التي تدير السياسات الكلية والتفصيلية لم تتأثر بالثورة كثيرًا، وعادت مرة أخرى، ومن ثم يمكن اعتبار أن هذا السيناريو لا يزال يحكم، رغم ما حدث من انقطاع من 2011 وحتى 2013م، ورغم ذلك فإن السلطة تسعى لترويج خطاب مغاير لذلك وتزعم على أنها تبني للمستقبل، وأنها لا ترتبط بعلاقات مالية أو سياسية أو فكرية مع ذلك النظام الذي كان يعبر عنه السيناريو الأول. مصر 2030، مصر 2050، مشاريع خرجت من مركز المستقبل بمركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار، على العكس من 2020، كان يمكن اعتبار عدول الدولة عن تجاهلها للبحث العملي وأهميته، إلا أن عدد من الباحثين مايزال يؤكد تراجع الإنفاق على البحث العلمي، فضلًا عن تشجيع الدولة الأساليب غير العلمية، ويضرب «إبراهيم» مثلًا على ذلك بأن: هناك العديد من المشاريع البحثية والكتابات العلمية بشأن مشروع العاصمة الجديدة، ولكن حينما جاء تنفيذ ذلك على أرض الواقع، بدا واضحًا مدى التخبط والعشوائية في التنفيذ، وتجاهل جهود الباحثين رغم أهميتها.