مصر من أولى دول العالم التي قدست العمل والإنتاج وحققت اكتفاءها الذاتي، ومن ثمّ قدست العامل والمهن الحرف وبفضل هؤلاء المهرة من الصُناع والفنانين والمثالين والنحاتين الذين كانوا يعملون في الخدمات العامة، شيدت روائع الأعمال المعمارية من العمائر الدينية والجنائزية والتي تُعد من أهم خصائص الحضارة المصرية القديمة. فالحضارة المصرية قدست العمال، وعلى الرغم مما ناله العمال من تقدير واهتمام، إلَّا أنه نالهم أيضًا جانب من الظلم وإهدار الحقوق. يقول أحمد عامر، الباحث الأثري: في العام التاسع والعشرين من حكم الملك "رمسيس الثالث" لم تصل المؤن في موعدها، فما كان إلَّا أن أعلن "آمون نخت" في اليوم الحادي والعشرين من الشهر الثاني، العمال بأنه "قد مضى شهر وعشرون يومًا ولم تصلنا مؤنتنا من الطعام بعد" ثم ذهب لهذا السبب إلى المعبد الجنائزي القريب للملك "حور محب" وحصل على طعام من أجل الجماعة، وعلى الرغم من ذلك استمر تأخير وصول المؤن، مما أدي إلى إضراب العمال، ومن هنا نعرف أنها أقدم الإضرابات والاعتصامات في التاريخ للحصول على الحقوق، ونجد أن الإضراب والاعتصام كوسيلة من الوسائل المشروعة للتعبير عن الرأي كانت أيضًا قديمة مصرية. وأضاف "عامر": لكن على الرغم من قدم الإضراب عن العمل، إلَّا أنه يجب علينا أن نتعلم من خلالها كمجتمع حديث كيف نعبر عن آرائنا بنظام ورُقيّ وإيجابية لحل المشكلات؟ وذلك عندما وقع أول إضراب في التاريخ ومظاهرة وصلتنا مدونة على بردية "وثيقة حكومية" محفوظة بمتحف "تورين" حيث أضرب العمال في الشهر السادس من نفس العام، واعتصموا خلف معبد الملك "تحتمس الثالث" فحاول مسؤولو إدارة جبانة طيبة إقناعهم وإدخالهم إلى المعبد لمناقشة مطالبهم، إلَّا أنهم رفضوا ذلك وعادوا إلى المقبرة التي يعملون بها، وفي اليوم التالي وصلوا إلى الباب الجنوبي لمعبد "الرمسيوم"، وفي اليوم الثالث استطاعوا اقتحام المعبد، فاتخذ الأمر صورة خطيرة وحاول الكهنة تهدئة العمال فكانوا يرددون: "إننا جياع أرسلوا إلى الملك، أرسلوا إلى الوزير"وقد أثمرت تهديداتهم فعلًا فتسلموا مقررات شهر، وبعد انقضائه عادوا إلى العمل. وأشار إلى أنه توالت الاعتصامات؛ للمطالبة بمتأخراتهم من المأكل والملبس والمشرب، حتى اضطرت الإدارة مع توالي الإضرابات إلى صرف نصف مستحقاتهم للتهدئة، لكن هذا لم يفي بالغرض، وعادوا للعمل مرة أخرى، لكن أحوال البلاد كانت تسير من سيء إلى أسوأ فاضطروا إلى الإضراب مرة آخرى، تدخل فيها الوزير وأعطاهم ما استطاع، لكنه كان قليلًا، وبعدها لجأ العمال إلى طريقة جديدة للتظاهر، وهي الاعتصام بالليل وحمل المشاعل، إلى أنه في الشهر التاسع من نفس العام، طالب زعيم العمال بعرض مطالب العمال واتهامهم لرؤسائهم بالفساد المالي والاجتماعي على الملك "رمسيس الثالث" أو وزيره. وتابع: وتلخصت مطالبهم في الأجور المتأخرة ومحاربة الفساد الذي تفشي بين رؤسائهم، من سرقة وفساد خلقي واجتماعي وإيصال صوتهم إلى فرعون مصر ووزيره، وتعددت وسائلهم للتعبير عن مطالبهم فتظاهروا داخل أماكن عملهم، وهي المقبرة والأماكن الدينية منها المعابد وواصلوا الإضراب عن العمل. وأكد عامر أن الإضرابات توالت في أواخر نفس العام، ثم في العهود المتعاقبة وفي عهد الملك "رمسيس الحادي عشر" هجر سكان دير المدينة قريتهم، وكانت الفوضى حينذاك قد عمت منطقة طيبة؛ بسبب تزايد غارات الليبيين ونشوب الحرب الأهلية، مما اضطر العمال اللجوء للمعبد الجنائزي ل"رمسيس الثالث" بمدينة هابو، إلَّا أن الأمن لم يكن مستتبًا هناك أيضًا، ذلك طرف مما سجلته البرديات عن ثورات العمال في ذلك الحين.