لن يقرأ القارئ الكريم مقالي مستريحا وهو يترقب موقفي من كلام وزير العدل عن أولاد جامعي القمامة وأهليتهم الاجتماعية للالتحاق بالقضاء, فأنا أبادر إلي إراحة عزيزي القارئ من عناء الانتظار والترقب, أرفض شكلا وموضوعا الكلمات والمنطق والمنهج وأزيد أني أشرف بكوني من المناضلين ضد كل صنوف التمييز منذ سنوات بعيدة من خلال كل منتدى أتيح أو صحيفة كتبت بها. أرفض كلمات الوزير وأرفض المنطق, لكني أرفض رفضا أشد قوة الطريقة التي جوبه بها منطق الوزير, وربما خطر بالبال أني أرفض السباب الذي نال الوزير ونال ذويه جميعا, وهو أمر منكر لاشك لكنه – علي سوئه – كان أقل ما هزني في القصة. هزتني في القصة أمور جسام, منها أن رد الفعل بدا وكأن المعضلة والداء من خلق الوزير, وأنا أدعي ادعاء من يعرف أنه لا الوزير خلق المعضلة ولا حلها بيده وحده ولو جعلها قضية عمره لأن القضية ترتبط بأمور أخري ارتباطا عضويا. إن التوريث في الوظائف – علي قبحه وبشاعته – صار جزءا من منظومة الفساد الضاربة أطنابُها في النخاع الشوكي للدولة المصرية, كما أنها ترتبط ارتباطا عضويا بثقافة مجتمعية راسخة تري أن التمييز هو الأساس، وأن المساواة أمر عارض، وترتبط بثقافة رديئة تتحدث عن أولاد الناس والجياع بل أن هناك مفردات جارية تعبرعن الأثرياء والفقراء بتعبيرين موجعين ( الباشوات والجوعى ) وترتبط بمجتمع ينظر طوال عمره نظرة إكبار إلى الأثرياء ونظرة احتقار إلى الفقراء حتى أن الفيلم المصري يظهر البطل أو البطلة فقيرا طوال الفيلم ثم لكي يجعل المشاهد أكثر تعاطفا مع البطل فإنه يظهر في النهاية أنه ابن الباشا أو حفيده. شعوب كثيرة تجعل بطلها صاعدا من القاع ( الأدب الغربي عموما والإسرائيلي مثلا ) لكن البطل المصري والعربي هو ( الشاطر حسن والأميرة ست الحسن . وبنت السلطان ) الأدب لدينا يعكس موروثنا العنصري لصالح الأثرياء والكبار وضد الفقراء والمعدمين. لا أريد أن أزيد لأتحدث عما طرأ في مصر بعد الانفتاح الاقتصادي والفساد المجتمعي في المفاهيم حيث صارت الثروة وحدها مصدر قيمة وعلو شأن دون سؤال عن مصدرها. وكان أكثر ما هزني أيضا حالة البراءة التي تبدى عليها مجتمعنا في رد فعله، وكأنه مجتمع لا يعرف الطبقية والعنصرية برغم أنه غارق حتى أذنيه عبر تاريخه الطويل في الطبقية والعنصرية, ولست أشك لحظة واحدة أن الغالبية الساحقة ممن اندفعوا للغضب العارم يمارسون العنصرية في حياتهم اليومية بشكل أو بآخر وبدرجة أو بأخرى, ألا نسخر من الأقزام ؟ ألا نسخر من السمين والسمينة؟ ألا تقوم أعمال فنية لدينا أو بعض تلك الأعمال علي السخرية طوال الوقت من مهنة ما أو شخص بوصف جسدي ما؟ ألا نسخر من الميكانيكي والحلاق وجامع القمامة؟ ألا يعيَّر الفقير منا بفقره؟ هل نقبل وزيرا تربي في دارٍ للقطاء كما قبلت ألمانيا يوما أن يكون رئيس وزرائها "فيلي برانت" لقيطا ؟ هل نقبل أن يحكمنا من استمد لقبه من اسم زوج أمه مثلما قبلت أمريكا يوم حكمها كلينتون الذي يقال أنه لا يعرف حتى من هو أبوه تحديدا؟ ألا نعير بعضنا بالفقر؟ ألا نعد الفقر في ذاته سبابا ووصفا مسيئا عندما نقول أن فلانا (جوعان) أو أنه من أسرة ( جوعانه) ؟ ألا نتعقب الفقير عندما يصيب ثراءً, ألا نتعقبه بأصله وفصله ونلاحقه بجذوره إن كانت فقيرة بدعوي أن عليه ألا ينسى نفسه وأصله وفصله. ويبقي سؤال أخير, هل يليق أن تبقي بعض الوظائف مفصولة بسدود وحواجزعن الفقراء وغير ذوي الجاه؟ وأبادر بالقطع هذا وضع مخزي أشد الخزي, ولن تنهض مصر وهي علي هذا الحال المزري من التفرقة بين الناس علي أي سند أو أساس كان. لابد من وضع معيار الكفاءة للاختيار في الوظائف، دون الاعتداد علي الإطلاق بمسألة الغني والفقر أو الأصول الاجتماعية فتلك هراءات اخترعت –ظلما وعدوانا – لتسويغ حصول الأقل كفاءة علي مكان الأقدر بما يخلق نكبتين أولاهما الإساءة إلى الوظيفة بحرمانها من الأكفأ والثانية خلق بيئة من الحقد الاجتماعي للشعور بالظلم. والأمر ليس بيد وزير العدل , بل بيد رئيس الدولة أوالبرلمان القادم أيهما. هذا فيما تعلق بالوظائف, أما ما تعلق بالثقافة المجتمعية فتلك تحتاج إلى فكر جديد أكثر نقاء يحل محل أفكار عفنة تخلقت في البيئة المصرية كنتاج لعصور طويلة من الاستعمار الأجنبي المتتالي والقهر الطويل.