كلاهما يمثل علامة فارقة في تاريخ بلاده، كلاهما كتب الشعر، كلاهما ينتمي وجدانيًا إلى كل أرض عربية، كلاهما لم يسلم من تسلط وتضييق السلطة الحاكمة، كلاهما اضطر للعيش بعيدًا عن موطنه وأعاده الحنين إليه، وكلاهما أيضًا مات في أبريل 2015، إلا أن الأخير مات بعيدًا عن السودان.. هما عبد الرحمن الأبنودي، ومحمد الفيتوري. هنا تقرأ بعض مواقف القهر السلطوي التي تعرضا لها، ولم تقهرهما، نبدأ بعاشق إفريقيا «الفيتوري»، وأول الأمر لابد من توضيح هويته الملتبسة عند الكثيرين، كشاعر عاش بين تخوم الجغرافيات العربية، فهو من أصل سوداني من جهة الأم، وليبي من جهة الأب، تَشكّل وعيه وتكوينه التعليمي بمصر، واستقر به المقام والتقاعد عن العمل في المغرب، لذا شعر بالانتماء الوجداني إلى كل أرض عربية أقام فيها، تجد كل المحطات الحياتية التي مر بها حاضرة في أشعاره بصدقها وعفويتها. رئيس السودان الأسبق جعفر نميري، أسقط عنه الجنسية السودانية، بعد أن كتب قصيدة بعنوان "قلبي على وطني"، وهي مهداة إلى ضحاياه البلد الشقيق، بعد أن صارحه فيها بأن سياسته بداية للمآسي التي شهدتها القارة الأفريقية، الفيتوري ظل يرددها سواء داخل أو خارج السودان الذي خرج منه بعد إسقاط الجنسية عنه: "قتل نميري عبد الخالق المحجوب وفاروق حمد الله وبابكر النور والشفيع أحمد الشيخ، علق المشانق وصبغ السودان بالدم، ليستمر حكمه ويصبح إماماً للمسلمين كما زين له الدكتور حسن الترابي، لم يحتمل نميري أنّني قلت في القصيدة لعبد الخالق محجوب وهو يصعد المشنقة: «لماذا يظن الطغاة الصغار؟/ وتشحب ألوانهم/ أن موت المناضل موت القضية/ أعلم سرّ احتكام الطغاة إلى البندقية/ لا خائفًا إن صوتي مشنقة للطغاة جميعاً…/ قتلوني وأنكرني قاتلي/ وهو يلتف بردان في كفني/ وأنا من؟ سوى رجل واقف خارج الزمن…/ كلما زيفوا بطلًا قلت: قلبي على وطني". بعد إسقاط الجنسية السودانية عنه، ذهب إلى بيروت حيث عاش، وعمل في الصحافة فترة، وهو يحمل جواز سفر ملغى، لكن لبنان في ذلك الوقت سمح بإقامته. خارج السودان صحيح، لكنه لم يتوقف عن مساندة وطنه ضد الأنظمة الفاسدة، فقال: لست شخصيًّا ضدّ النظام الحالي ولا معه، فأنا متفرج في هذا العصر، لكن ربما كانت الصبغة التي أعطاها الترابي للنظام الحاكم في السودان، وراء تلك الرؤية الأحاديّة التي حشر فيها، فتسبّبت في عزلته، وجعلته مرفوضًا على الصعيد المصري والعربي والعالمي، وفي ظل مناخ العزلة هذا، يصعب على المفكر والأديب والمبدع الحر أن يعيش كما يطيب له، بل هو مطالب باجترار السائد، وإذا كان مصرًّا على إبداء رأيه والخروج من السرب، فما عليه سوى أن يغادر، وهذا الوضع يفسّر ما حدث للطيب صالح من منع روايته "موسم الهجرة إلى الشمال"، والشيء نفسه يحدث مع كتاب وشعراء آخرين، منعت أعمالهم في السودان، لا لكونهم معارضين بل لمجرّد خروج إبداعهم وفكرهم عن النسق السائد، النظم الشمولية تريد دائمًا من الفنان أن يكون تابعًا وبوقًا. منحه نظام البشير "الوسام الذهبي للعلم والآداب والفنون"، في 22 فبراير 1990، أي أن ثورة الإنقاذ الوطني كانت في بداية الطريق، وعلاقاتها بمصر وببقية الجيران كانت ما تزال وثيقة، إلا أنه وصف الأمر في جملة واحدة: "يتاجرون باسمي". في يونيو 1975 كان «السادات» يفتتح قناة السويس، ومعه عبد الرحمن الشرقاوي، وأنيس منصور، فنظر إلى الشط ووجد الفلاحين يروحون ويجيئون على الشاطئ، فقال: «مش دول بتوع عبد الرحمن الأبنودي، بتوع وجوه على الشط، أمال الأبنودي فين؟»، ونشرت الصحف ما قاله الرئيس «السادات»، واتصل مدير مكتب السادات فوزى عبد الحافظ ب«الأبنودى»، وقال له: «سعادة الريس منتظرك في استراحة المعمورة»، فرد عليه الخال: «يا عم أنا ماعرفش استراحة المعمورة ابعتولي عربية»، فقال له عبد الحافظ: «لأ.. اتصرَّف وتعالى.. وكلمني لما توصل إسكندرية». حكى الأبنودي عن لقاءه بالسادات في الإسكندرية، وعن محاولات النظام أن يملي عليه ما يكتبه من أشعار لتوطيد حكمه وقتها، ولما رفض الخال بدأ النظام في تلويث سمعته، وظل فوزى عبد الحافظ ينشر في الصحافة أخبارًا كاذبة عن لقاءات لم تتم بين السادات والأبنودى. تعرض كذلك قبل حكم السادات، للاعتقال أكثر من مرة، وتم إلقاء القبض عليه عام 1968، بتهمة الانتماء لتنظيم شيوعي، واعتقل لمدة أربعة أشهر، في سجن القلعة حتى تم الإفراج عنه. بعدما صارت قصائد الأبنودى بمثابة المدفعية الثقيلة التي تواجه نظام السادات، تم استدعاؤه إلى نيابة أمن الدول العليا، وعندما ذهب وجد رئيس النيابة عبد المجيد محمود، في انتظاره، ولم يتضمن التحقيق سوى سؤال واحد فقط، هو: هل أنت صاحب قصائد «الأحزان العادية» و«المد والجزر» و«سوق العصر» و«المجنون»؟ فأجاب الأبنودي: طبعًا. بعد أسبوع واحد فقط، وجد الأبنودى نفسه مطلوبًا للتحقيق معه أمام المدعى العام الاشتراكى، ونشرت صحيفة «واشنطن بوست» حوارًا مع الخال عنوانه: السادات يحاكم شاعر الفقراء بمقتضى قانون العيب، وحين سأله المدعي العام الاشتراكي: من تقصد بالمجنون في قصيدتك "لا شك أنك مجنون"؟ رد: باكلّم نفسى.. لا شك أنك مجنون أنك مصدق الحاجات الجميلة اللي السادات عمل عكسها وراح القدس، والناس مبسوطة بده، فأنا مجنون إنى مش زي الناس، فسأله: وهل أنت ضد الزيارة؟ الأبنودى: طبعا ضد.. إلا ضد! الشعب المصرى كله ضد، واللى مش ضد النهارده بكره هيبقى ضد. ضد الأنظمة الفاسدة الباطشة البائدة، كل مبدع حقيقي، سواء الأبنودي أو الفيتوري أو غيرهما، تتلاشى الأنظمة برجالها وسجونها، وتبقى كلمة المبدع الإنسان، شعرًا في جبين الإنسانية، شوكة في حلق الإمبراطور، طاقة نور في عتمة السجين، وسوط يقبض قلب السجان.