«رحلة العائلة غير المقدسة»، رواية جديدة للكاتب عمرو العادلي، صدرت مؤخرًا عن الدار المصرية اللبنانية، تدور أحداثها حول عائلة بسيطة، ليس فيها ما يميزها عن مثيلاتها من العائلات الساكنة تحت خط الفقر، والعائشة على هامش الحياة، سوى تفاصيل إنسانية بالغة الشجن، تناولها الكاتب بلغة طافحة بالواقعية، ليقدم للقارئ عالمً خفيًا لا يدرك وجوده كثيرون رغم وضوحه الشديد، عبر رحلة مقدسة لعائلة ليست مقدسة، وإن كانت تكتسب نوعًا من القدسية تستمده من إيمانها بالقدر والمقسوم، والإصرار – رغم شظف العيش- على الوفاء برسالتها في عمران الأرض، وتقبل الحياة بشقائها وعذابها قبل بهجتها وسعادتها! وعبر 264 صفحة من القطع المتوسط، غاص الكاتب وتوغل في أدق تفاصيل هذه العائلة التي تعيش حياة أشبه بالموت، راضية بالقليل الذي حازته، وباحثة طوال الوقت عن أسباب للرضا حتى عندما تفقد هذه القليل بقسوة وغلظة. يبدأ الكاتب روايته بوصف الرحلة التي تقطعها العائلة بقيادة الأم "عائشة" – أو "عيشة" كما يناديها الجميع- والتي تضطلع بدور مُسيَّر الحياة، محرك الأحداث، حتى لو كان بشكل خفي، يحفظ ل«رجل العائلة» حقه في القيادة والقوامة، ومعها ابنها الصغير، الذي يروي حكاية الرحلة من بدايتها إلى نهايتها، بما فيها بدايته هو شخصيًا، لنعرف أنه جاء رغم أنف أبيه: "عندما كنت أسبح كسائل لم يتم استخلاصه بعد من جينات الغيب ومزاج اللحظة، اكتفى أبي بفتحي واستعوض الله في أنس، حذر أمي كثيرًا بأن طلاقها مرهون بحملها للمرة الرابعة.. كام يهرب من المسؤولية عن شخص آخر يشبه أنس وأخي الرضيع الذي مات وحملت اسمه، عطبت بذرتان ويمكن للسلة كلها أن تخيب". ويواصل الرواي حكايته: "أحاول تذكر أول خيط شكل المراحل الأولى لإدراكي، كنت كمن يبحث عن دبوس في بركة، متي بدأت حكايتي، كيف تعرفت على من حولي؟، أفشل في إيجاد بداية مقنعة لمرحلة تشكلي الفعلي، بعد تفكير طويل أعثر على أول الخيط في حكايات أمي، اسمعها أولًا، ثم أضفي على ما تقول مسحتي الخيالية المعتادة". وبهذه المسحة الخيالية المعتادة، يروي الكاتب – على لسان الان – قصة أفراد هذه العائلة البائسة، المكونة من الأم والأب والابن والرواي، والابن الأكبر فتحي، والابن الأوسط (المعاق) أنس، والجد طلبة: "جاء جدي طلبة لزيارتنا في يوم بعيد، قالت أمي أنه لم يكن يحمل سوى برواز كبير تحت إبطه مغطي بورق جرائد؛ ظل محتفظًا به مغلقًا لأكثر من سنة، فتحه وعلقه عندما دهن أبي بيته الملك، جدي يصافح الرئيس جمال عبد الناصر، ينحي أمامه والرئيس يضحك، يمسك بصك الإصلاح الزراعي، كانت هذه الصورة هي التي نشرتها الصحف بعد ذلك في عيد الفلاح". وكما يتفوق الكاتب في وصف الواقع بأدق تفاصيله، يتميز كذلك في سبر أغوار الشخصيات، وما تفكر فيه، وما تشعر به، خاصة الابن الراوي: "تعلمت من جدي طلبة تأمل الناس كثيرًا، والأشياء أيضًا"، وهذا التأمل للناس والأشياء، يوظفه الكاتب في وصف المواقف التي تمر بها العائلة، خاصة حين يضربها زلزال بشري مفاجئ: "اسمع صواتًا عالية تنتهك سرحاني، كأنها تخرج من الحيطان، لم تكن خناقة، فالخناقات في عزبة العقاد لها طرق محفوظة.. يخرج أبي بالجلابية القصيرة المقطوعة عند أعلى فخذه… أسمع صوت بلدوزر قادم، صرير عجلاته وزحف جرافته يزداد وضوحًا".. ويمعن الكاتب في تصوير حالة الذل والانكسار التي تعيشها هذه العائلة المنكوبة، حين تهدم البلدوزرات البيت الملك.. ويعد أن يهدأ الغبار، يواصل الكاتب من خلال قدرته السردية على التقاط التفاصيل الكثيرة وتوظيفها، وضع "رتوش" إضافية إلى الصورة؛ لتواصل العائلة رحلتها: "كان هدد بيتنا المجازي باعثًا على الحيرة، ولكنه بداية لمرحلة أخرى". وبدأبة واحتفائه بالتفاصيل، يتابع الكاتب العائلة في رحلتها إلى "كشك الإيواء"، لينقل صورًا قد تصدم الوجدان في بعض الأحيان، ولكنها تكشف في كل الأحيان واقعًا معاشًا بمآسيه المؤلمة للروح قبل الجسد، في رحلة يتساوى فيها الموت بالحياة، فيصبح رحيل أحد أفراد العائلة حدثًا عديًا، لا يستحق التوقف أمامه بأكثر من إشارة عابرة: "تركنا جدي طلبة ولم يعد بإمكاني استعادته إلا عن طريق أشيائه التي تحتفظ أمي بها"، وكما أصبح الموت حدثًا عابرًا فقد قدرته على إحداث الارتباك والصدمة، لم يعد للحلم ما يثير الدهشة أو الفرحة: "لمحته من بعيد يحمل في يده ورقة انتظرناها طويلًا. رفع دوسيهًا به أوراق في وجه أمي: عقد الشقة"، وبهذه العبارة الفاقدة للحياة والبهجة، يصور الراوي لحظة تحقق الحلم؛ ليعود إلى الواقع المرير؛ حي تبدأ العائلة رحلة جديدة: "أجر أبي سيارة نصف نقل، كومنا عفشنا للمرة الثالثة، سننقل العفش على مرتين. قال إننا أخيرًا سنستقر في مدينة ناشئة، نبتت في قلب الصحراء، لم أتذكر اسمها، ولا أبي أيضًا كان يتذكر".