جلسات السمر والمؤانسة، لمة الأصدقاء والأصحاب أمام البيت، الغناء والإنشاد في كافة المناسبات الاجتماعية والدينية وحتى السياسية، وطبعًا احتفالات الزواج، إنها صفحة من صفحات إبداع الشعب البورسعيدي، التي تحملوا بها عبء المسؤولية، وصدوا من خلالها أذى التغريب ومحو الهوية. نحكي عن أغاني الضمة في بورسعيد، التي كانت دعوة للانضمام والتوحد والتلاقي حول الغناء، الذي يزيح الهم ويمنع الكدر ويجعل للحياة معنى، إنه الإبداع القادر دومًا على حل صراع الإنسان مع معركة الحياة، ليبدأ التصالح وتمر العيشة.. وتمر المشكلات. من خلال أدوار الضمة المختلفة، يتكفل أحد الصحبجية بعد إحضاره الآلات، ودفع إيجارها، بالغناء ودعوة أقرانه للمشاركة، وتشمل الاحتفالية اليوم دعوة باحث كالدكتور محمد شبانة، ليؤلف كتابه «أغاني الضمة في بورسعيد»، الصادر مؤخرًا عن سلسلة الدراسات الشعبية، التي تقدمها هيئة قصور الثقافة، ليحكي لنا بداية الحكاية: «من هنا تبدأ الحكاية، حكاية بورسعيد والبورسعيدية، الذين اجتمعوا من كل ربوع مصر، كي يسهموا في صياغة مستقبل هذه الأمة، هم كما هو الحال غالبًا، الناس الغلابة عمار الأرض الطيبين، يزرعون فتمتليء نضرة، هم على الدوام أصحاب الفضل والفضائل». «الضمة».. بات مصطلح يطلق على شكل الاحتفالية، التي تضم أشكالًا غنائية متعددة، منها الجواب، الدور، الموال والدور الفكاهي، بالإضافة لما يصاحب ذلك من أداء حركي، يشمل الرقص واللعب بالعصا والسكاكين، كانت الضمة في البداية فنًا للرجال لا تشارك فيه النساء أو الأطفال، أما الآن فأصبحت تتسع للجميع في إطار التلقي، يجلس الرجال على الأرض المفروشة بالحصر أو البطاطين، ويظل العدد يتزايد بحضور الصحبجية. يتخذ شكل الضمة في المناسبات ثلاث دوائر، الأولى للصحبجية إذ يجلس المنشدون، ومع بعضهم الآلات الإيقاعية، والثانية للضيوف من أقارب صاحب المناسبة، والثالثة لجمهور المستمعين، ومن الآلات والأدوات المصاحبة للاحتفالية: الدربُكة والرق والمثلث والملاعق والزجاجات الفارغة والسمسمية والناي، ويأخذ الأداء شكل الحوار الجماعي التبادلي بين المغني المنفرد والمنشدين. لنفتح صفحات كتابنا الجديد، الذي جاء بغلاف للفنان أحمد اللباد، ضم أكثر من 400 صفحة، مقسمة بين 7 فصول، تناولت العلاقة بين الضمة في بورسعيد والقوالب الغنائية المصرية التقليدية، إضافة للتعريف بالآلات والأدوات الموسيقية، كما قدم الباحث تدوينًا وتحليلًا لهذا النوع الموسيقي، فضلًا عن تحديده عددًا من الخصائص العامة لأغاني احتفالية الضمة. «آسي ما حد آسى في العشق مثلي/ وأنا المتيم قلبي مولع في حب خلي/ من نار غرامه يا رب سلم/ وأنا اسأل الله كريم يحنن/ قلبه عليا».. بعد الغناء، نحكي أكثر عن السامر البورسعيدي المعروف بالضمة، هذا الشكل التعبيري الذي عرفته المنطقة إبان حفر قناة السويس، فعندما بدأت أعمال الحفر، جلبت الحكومة وقتها عمال التراحيل من شتى مديريات مصر، إضافة لعدد من مقاولي الأنفار الأتراك والمغاربة، وفي نهاية يوم العمل الشاق، كان أبناء كل جماعة يتقربون إلى بعضهم البعض، ويتسامرون مساء كل يوم، بالأغاني حاولوا تبديد عناء غربتهم وقسوة ظروفهم، هنا ظهرت أكثر من ضمة، منها ضمة للدمايطة ومنها للشراقوة والصعايدة وخلافه، لذا نجد أن الممتع في دراسة الدكتور محمد شبانة، هو أنها تنحو إلى تناول ظاهرة الضمة البورسعيدية بما تحتويه من فنون متميزة نوعيًا عن الممارسات الفنية في مناطق أخرى تشكل معها نسيج الشخصية الموسيقية الشعبية المصرية. إضافة لما تحتويه هذه الظاهرة من عناصر تتصل بالغناء المصري في فترة أوائل القرن التاسع عشر، وبالقوالب التي ابتدعت وتطورت وانتشرت في تلك المرحلة الزمنية، إذ نجد في احتفالية الضمة كثيرًا من النصوص ذات الصلة بهذه القوالب، وذلك بالإضافة إلى مصادر فنية أخرى تشكلت منها احتفالية الضمة، وكذلك معرفة التغيرات التي طرأت على هذه الاحتفالية تبعًا للظروف الاقتصادية والسياسية والاجتماعية التي مرت بها مدينة بورسعيد، ومدى تأثير الحروب والانفتاح الاقتصادي، كذلك الركود الاقتصادي، في هذه الظاهرة الفنية سلبًا وإيجابًا. كما تسعى الدراسة لتوضيح دور المؤسسات الرسمية والأفراد لإحياء هذه الظاهرة وعدم اندثارها، وذلك من خلال الجمع الميداني للأغاني، وتدوين بعض نماذجها الفنية وطرائق أدائها، كما تسعى الدراسة إلى التعرف على الآلات الموسيقية المصاحبة للدراسة، سواء في وضعها الراهن أو في شكلها القديم، وما لحق بهذه الآلات من متغيرات سواء في الشكل أو في الناتج النغمي. لما لا نغني قليلًا: «يا عازف الأوتار قسملي من الأول/ هقول موال يا ليل على ده الحال من الأول/ وأقول يا ليل وكل ليل وله أول/ ياما قاسينا وصبرنا في الأول/ لكن الصبر جميل وياما الصبر بينول/ وادي الصحبة اتجمعت في جو الحظ من الأول، عشان نغني التراث ونعيده من الأول».. هذا ما كانت تلعبه الأغاني من دور مهم في خلق جو التفاعل بين العمال فيما يقومون به من أعمال شاقة، وغالبًا ما حملت كلمات الأغاني قيم وأفكار تعبر عن الجماعة التي تتبناها في مراحل زمنية، إذن لنستمر في الغناء:«والنبي يا غزال حوش طرف الشال يُطرُف عيني/ ده حرير في حرير م النسمة يطير/ عيني يا عيني على طرف الشال/ بيحرك قلبي في غمضة عين/ والنبي يا غزال/ حوش طرف الشال يشبُك فيّا/ ده أنا دوبت خلاص مابقاش فيّا/ ولا كان ع البال ولا في النيّة/ يتعلّق قلبي ف طرف الشال/ ارحم يا غزال». لكن تظل الأغنية الفكاهية على قمة جبل فن الضمة البورسعيدي، فالصحبجية في حلقاتهم قاوموا الظلم والقهر والسخرة والاحتلال، وحتى الأنظمة الفاسدة في العصر الحديث بالكلمات وأوتار السمسمية، نذكر من كلمات أغانيهم الفكاهية جزء من دور الضمة "أنا مستعان" مجهول المؤلف والملحن:«شوف الخروف اللي انتشى من أرض مصر القاهرة/ أصل اللي فحروا القنال أولاد مصر العامرة/ لا العيش لقوه ولا حتى اللبس/ الله يولع دليسبس/ الخزنة فضيت م الفلوس/ ولا حتى أيام المجوس/ شوف الكرم باين عليه/ وربنا يخلف عليه/ ويرقه بمتين جنيه/ يعمل بهم ليلتين سهر». يغلب الأداء الجماعي على أغاني الضمة، يسمح لأي شخص بالرقص دون معارضة، يندمج الموال مع أدوار الغناء، وتختلف أغاني احتفالية الضمة من حيث سرعة الأداء الموسيقي، وقوانين أخرى تراكمت عبر زمن وآخر، لتعلن حق هذا الفن الموروث في البقاء، وتضمن مقاومته لكل فساد أخلاقي في أي زمن، فن الضمة سيظل حائط الصد، والمدافع عن الكادحين ضد كل عوامل التغريب ومحو الهوية.