«لطالما بحثت عن الحق.. ولم أزل! لكنني توقفت عن مساءلة الكتب والنجوم وبدأت في الاستماع لتعاليم قلبي..» قالها مولانا جلال الدين الرومي، الذي كتب سيرته الشرق والغرب، ودار الأدب في فلكه كذلك، إذ شكل على مر العصور، أمثولة في الحب والتسامح واحترام الآخر، مهما كانت هويته ومهما كان انتماؤه، وبلغت أنسنته للكائنات والأشياء من حوله مستوى رفيعًا، أليس هو القائل: "استمع للناي كيف يقص حكايته.. إنه يشكو آلام الفراق". ذكرى وفاته التي تمر علينا اليوم، تقدم فيها «البديل» بعض الكتابات التي تناولت نصوصه وسيرته من مختلف الجنسيات واللغات وعلى مر العصور.. «في مساعدة الآخرين كن كريمًا كالنهر، في الرحمة والفضيلة كن كالشمس، في إخفاء أخطاء الآخرين كن كالليل، في الغضب كن كالميت، في الحياء والتواضع كن كالتراب، في التسامح كن كالبحر، إما أن تبدو كما أنت أو كن كما تبدو..» هيا راشد آل خليفة- رئيسة الجمعية العامة للأمم المتحدة "2007″: جلال الدين الرومي كمعظم المبدعين الكبار، لا ينتمي إلى عصره فقط، وإنما إلى مختلف العصور لأن الموضوعات التي اختارها إنما تصب في البعد الإنساني والكوني الشامل الذي تبطل معه الفواصل والحدود. إن الثقافة الصوفية التي أسسها مولانا بمثابة الجوهر الذي يحرر الدين من القراءات المتشددة، ويحث على التأمل، لا سيما في مرحلة أصبح فيها الإسلام مقرونًا، عند البعض، بالتطرف والإرهاب، وأصبح تزايد الارتياب بين الناس من مختلف الثقافات والأديان سمة أساسية لهذا العصر. ولأن الوسيلة المثلى للوصول إلى الله هي القلب، فقد آمن الرومي بأن عبادة أي منا لا يمكن اعتبارها طريقة ننتمي إليها بقدر ما هي دعوة إلى إقامة الدنيا على أسس المحبة الصادقة، وهو بهذا المعنى ينظر إلى الحياة كلها من خلال الحب، ويعتبر أن "الحب كالغصن حين يغرس في القلب فإنه يثمر على قدر العقل". علينا، نحن الدول الأعضاء في الأممالمتحدة، أن نستحضر روح الرومي في جهودنا المتضافرة من أجل التصدي للتحديات الجسام التي ينوء بها عالمنا اليوم، لأن رسالته تقوم على المثل العليا والمقاصد السامية، التي أنشئت هذه المنظمة على أساسها. ومن تلك المثل والمقاصد اعتباره أن الصدمات التي نتعرض لها خلال تجربتنا ومسارنا، يجب ألا تكون عذرًا لليأس والتشاؤم، وإنما عامل إيجابي يساعد على صقل جهودنا وقوانا المشتركة. «اذهب واغسل كل الحقد من قلبك سبع مرات بالماء ثم يمكنك أن تكون رفيقنا وتشرب النبيذ من الحب..» أبو الفضل القونوي- صاحب كتاب أخبار جلال الدين الرومي "2000″: سمعت باسم جلال الدين الرومي أوَّل ما سمعت، يوم كُنتُ في السابعة أو الثامنة من عمري، وأظنه كان أول اسمٍ يطرق مِسْمَعيَّ من رجالات الصوفية، فكنت أختلف إلى دكَّانٍ لعمٍّ لي بقونية في جادة (مولانا) –وهي أشهر شارع بها- يبيع تُحَفَاً مولوية عُرفت بها المتاجر في تلك الجادة إلى يوم الناس هذا، من دمىً نُحتت من خشبٍ لراقص (الباليه) المولوي، إلى صور مُتَخيَّلة للجلال، وهو قاعد وعنده مريد في السماع، مرسومة على صفائح من نحاس دائرية، مكتوب على بعضها بخطٍّ قَبُحَت قاعدته الخطية كما قبُح معناه الشركي: ( يا حضرة مولانا )، إلى ملاعق من خشب مُزَوَّقة ومُلوَّنة للزينة، إلى حلوىً يطلقون عليها: حلوى مولانا، إلى أشياء أخرى يشتريها السائح الذي يحب أن يرجع بشيء يذكِّره بتلك البلدة. كنت على حداثة سني استنكر بقلبي تلك الصور والدُّمى لما كُنت أُلَقَّن من حرمة التصوير واقتناء التماثيل، وكنت اسأل من أظن أن عنده جواباً: ألم أُخبر أن الصور والأغاني والموسيقى حرام؟ فلِمَ يُسكت عن المولوية؟ ألم يُغرس فيَّ حبّ الرزانة والوقار، لأن الرجل يكون بهما رجلاً؟! فما للكبار والرجال حولي لا ينكرون على الرَّقَّاصين من المولوية رقصهم ودورانهم؟ ولم يكن جواب قرابتي ليتغير: مولانا بريء من كل ما قُرِف به من سماع الموسيقى ومن دوران ورقص!! كنت لا أعرف من شأنه سوى هذين، فما كان لي من علم بما قد اختاره لعقده. وتمر أعوام وأنا إخاله من الصالحين أهل التعبّد المفترى عليهم، متأثراً بما وَلَج قلبي من تعظيمه وأنا بقونية، وبالذي قرأته بُعَيد أيام دراستي المتوسطة للندوي وغيره. وما كنت أحفل به كثيراً حتى أوقفني رجل قونوي من طلاب العلم على مواضع في المثنوي ونحن بمكتبة تجارية قرب تلّ علاء الدين، مواضع فيها المنكر كله، وانضم لذلك صدور كتب بالعربية تَطْفَحُ بمديح المثنوي وصاحبه، فصحَّ عندي العزم على دراسة الأمر. فطلبت ترجمات المثنوي وكل ما يتعلق به مما هو الأصل والمصدر والأساس في ذلك، وكلما أقضى يوم في دراستي لها وأعني تلك المصادر، انْبَلَجَتْ حقيقة من حقائق المثنوي، وصاحبه، وتاريخه، صارخة بعكس ما كنت أعرف. فما تقرؤه هو نتاج عامين من البحث والترجمة، أضعه بين يدي قرَّاء العربية لعلمي أن مكتبتهم العامرة فقيرة إلى مثله. «أن تحب البشر؛ يعني أن تحب الله.. فكل صور العشق التي تراها بين البشر، تشكل جسرًا إلى العشق الإلهي بنهاية الأمر..» علي عادل نيا نجف آبادي- باحث إيراني "2010″: في عصر الرومي كان عدد كبير من العلماء والفنانين والصوفية، من كل أنحاء شرق العالم الإسلامي يبحثون عن الملاذ في قونيا، التي كانت أحد الأماكن القليلة في زمن دمرت فيه فلول المغول أجزاء واسعة من الدولة الإسلامية. لذلك انتعشت الحياة الفكرية والدينية في هذه المدينة بشكل كبير، وكانت الفارسية هي اللغة المثقفين، غير أن العامة كانوا يتحدثون إما اليونانية –لأنه كان يوجد في إكونيوم جزء كبير من النصاري شديدي الإيمان– وإما التركية، وكان الرومي يستخدم كلتا اللغتين في أشعاره. بعد موت الرومي بقليل اشتهرت أعماله وخصوصا المثنوي في كل المنطقة المتحدثة بالفارسية، وامتدت شهرته إلي الحدود الشرقية للعالم الإسلامي، وقد كان تأثيره في شرق البنغال في القرن الخامس عشر كبيرا، لدرجة أن أحد المؤخرين كتب إن براهما المقدس يقتبس من المثنوي. إن جلالالدين الذي قل نظيره في تعمقه في الأدب الصوفي والتعريف بالتصوف، وقل نظيره في القرون الأخيرة، يقدم لنا المعرفة الصوفية في صورة متكاملة، ليس تصوف شاعرنا من النوع السلبي الذي يدع الحياة ويعدها شراً تورطت فيه البشرية، بل هوتصوف بناء يحاول أن يرسم المثل العليا في الإنسان نفسه، في الإنسان الذي يتعمق في حقائق الكون ويجعل من التفكير سبيلاً للوصول إلي الحق والصدق والصواب. ومن ميزة هذا الشاعر الصوفي الذي ترك تراثاً ثميناً يباهي به المسلمون هوأنه لم يكن يميل إلي التصوف الجاف أوالتصوف السلبي حسب تعبير بعض المؤلفين، بل كان صوفياً بمعناه الحقيقي ومفهومه الايحابي، وكان شاعراً فناناً، أدبيأ عالماً، وسياسياً، عالج المشاكل العلمية بطريق دقيق يطمئن إليه الباحثون في عصرنا هذا، عالج المشاكل وأثبت أنه ليس في طريق العلم أية عقبات. «اطرقْ، يفتح لك الباب تلاشَ، يجعلك مشرقًا كالشمس اسقطْ، يرفعك إلى السماوات كنْ لا شيء، يصيِّرك كلَّ شي..» محمد علي آذرشب- المستشار الثقافي الإيراني بدمشق "2003″: إذا قلنا إن كل بيت من أبيات «المثنوي» فيه خطاب إنساني يحتاج إلى وقفة وتأمّل فلسنا مبالغين، فهذا الرجل دخل في أعماق النفس الإنسانية ليصوّر كلّ خباياها وأسرارها، وليقدّم مشروعا لنهضة البشرية من كبوتها يقوم على أساس استنهاض الإنسان من قيود الطين، ودفعه للحركة نحو ربّ العالمين، يحدوه عشق الجمال وتعاليم الدين المبين. هذا المشروع يستطيع اليوم أن يخاطب فطرةَ الإنسان التوّاقة دوماً إلى الارتفاع والسموّ، خاصة في عصرنا الذي أريد لأشواق الإنسان فيه أن تتجه إلى المستنقعات الآسنة أو إلى سراب يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً. إن شرقنا الإسلامي بحاجة الى عودة الروح وحركة الشعور فذلك مقدمة ضرورية لحركتنا الحضارية. والعالم الغربي باقباله الشديد أخيراً على ترجمات المولوي يدلل على أن الحضارة المادية لا تلبي أشواق الانسان الى السموّ، ولا تحلّ التناقض القائم في وجوده بين الجانب المادي والجانب الروحي، بل بسبب ضمور الجانب الروحي تبقى التناقضات تعبّر عن نفسها بهذه الحروب الطاحنة التي شهدها العالم الغربي في القرن العشرين، وبمحاولة تصدير الحروب والأزمات إلى شرقنا الإسلامي منذ مطلع هذا القرن. إن عالمنا الإسلامي مؤهّل أن يقدم للبشرية مشروعاً من تراثه العظيم يستطيع أن يجعل الإنسان يتصالح مع نفسه ومع أخيه الإنسان، وتكون الكلمة السائدة هي السلام والوئام والحوار. «إن تكن تبحث عن مسكن الروح فأنت الروح وإن تكن تفتش عن قطعة خبز فأنت الخبز وإن تستطع إدراك هذه الفكرة الدقيقة فسوف تفهم أن كل ما تبحث عنه هو أنت..» الدكتور ياسر منجي- فنان تشكيلي وناقد أكاديمي مصري "2008″: جلال الدين الرومي، أحد أعمق وأخطر شعراء ومتصوفي القرن الثالث عشر الميلادي، وقد اكتسب لقبه "الرومي" من خلال استقراره معظم سنين حياته في بلاد الروم (تركيا الحالية)، وتحديدا في مدينة "قونية"، التي تعتبر مزارا و متحفا عالميا يحوي رفاته ومتعلقاته، فضلا عن التكية الشهيرة التي تمثل واحدة من أهم ثلاث تكايا مولوية على مستوى العالم، أما لقبه "مولانا" -والذي يعكس مدى تقدير أتباعه ومريديه له- فهو اللقب المسئول عن إطلاق اسم "المولوية" على طريقته في التصوف والفن، كلقب لأتباعه من بعده. أهمية الرومي لا تكمن فقط في كونه أحد أعلام التصوف أو الشعر، على الرغم من أن "المثنوي" و الذي يقع في حوالي عشرين ألف بيت من الشعر يمثل أحد أهم الأعمال الشعرية في تاريخ الأدب العالمي، وإنما تعود في الأساس إلى منهجه الفني وكذلك إلى نظريته في التسامح بين الأديان ونبذ الفرقة، الأمر الذي يفسر الظاهرة الغريبة التي حدثت أثناء تشييع جثمانه؛ حيث احتشد أهم رجال الفقه والدين الإسلامي يقرؤون القرآن إلى جانب أهم رجال الدين المسيحي مرتلين للأناجيل، يجاورهم أهم حاخامات اليهود مرتلين للتوراة، فضلا عن آخرين من أتباع بقايا الديانات المحلية، في مظاهرة حاشدة سبقت فكرة العولمة بأكثر من سبعة قرون. تبدو فرادة المنهج الفني لدى جلال الدين الرومي، وهي أيضا مكمن تفرده كمتصوف، في كونه قد رأى أن طريق الوصول إلى الحب الإلهي إنما يكمن في ممارسة الفن بمعناه الحقيقي، وذلك على العكس من معظم الطرق الصوفية التي ترى في إماتة وقمع الحواس الوجدانية والجسدية طريقا للخلاص والانعتاق.