محبوس يا طير الحق/ قفصك حزين ولعين/ قضبانه لا بتنطق/ ولا تفهم المساجين/قضبانه لا بتعرف/ ولا تفهم الإنسان/ ولا الحديد ينزف/ لو تنزف الأوطان»، علنا نتذكر لحن وصوت الموسيقار الكبير «عمار الشريعي» وهو يشدو ألمًا بهذه الكلمات، والكاميرا تنقلنا من سجين لسجين داخل زنزانة مساحتها لا تزيد عن 10 أمتار، ضمن أحداث فيلم «البرئ» سنة 86، منددًا بفكرة قمع الحرية بجهل الأبرياء. «الناطق بالحرية»، «المتمرد على الظلم والقمع»، وغيرها من الأسماء التي بإمكاناك عزيزي القارئ أن تطلقها على غواص بحر النغم، ذو اللحن الشجي الدافئ، الذي طالما احتضن الأبرياء والبسطاء، فتسمعه مع فرقة الأصدقاء -التي كونها بصحبة شباب الثامنيينات- يواسي المسافرين بعيدًا عن حدود الوطن «وأحنا فايتين على الحدود/ مستمرين فى الصعود/ أختفى النيل الجميل من تحتنا/ والمدن والريف وأول عمرنا/ وأبتدى شئ ينجرح جوه الوجود /وأبتدينا أسئلة مالهاش ردود/ ميلنا على الشباك نخبى دمعة فرت مننا». صدق الشريعي في حب مصر، فيوصفها ب«حبيبته» اللي من ضفايرها طل القمر، وعلى الحدود يقول لها «كنت فاكرة يا مصر أني تعبت منك/ واكتشفت أني محال استغنى عنك»، فرجل عشق تراب هذا الوطن إلى هذا الحد، طبيعي أنه يكون واحد من ثوار 25 يناير، رغم أنف الأطباء الذين كثيرًا ما نصحوه بإلزام الفراش لسوء حالته الصحية، إلا أنه لم يستطع أن يمنع قلبه من الفرحة ويبكي، وعندما سأل لماذا تبكي يا شريعي قال «ببكي من فرحتي بالشباب اللي قدر يعمل اللي احنا مش قدرنا نعلمه، احنا كنا جيل خواف». في الذكرى الثانية لك اسمح لنا أن نقول لك كم كنت برئ يا «شريعي» كشباب ثورة يناير وأنتم تبكون فرحًا بإسقاط نظام سجن أحلامنا، لكن نقائكم وبرائتكم تختلف كثيرًا عن البراءه التي منحها قاضيٍ لرئيس ثار الشعب عليه لفساد حكمه، ومعاونيه الذين انصاعوا لأوامره!. براءة الشريعي لم تتجلى فقط في الجانب السياسي، فمنذ بداياته الفنية وهو يعشق الأطفال وعالم الطفولة، فيلحن عشرات الأغاني التي نشأنا عليها ك«الشاطر عمرو»، «كان فيه فراشه صغننة»، كما أنه أحيى احتفالات عيد الطفولة لمدة 12 عاماً متتالية، بصحبة مجموعة من كبار الممثلين والمطربين مثل: عبد المنعم مدبولي، نيللى، صفاء أبو السعود، لبلبة وعفاف راضي. ولد غواص بحر النغم يوم 16 أبريل عام 1948 في مركز سمالوط بمحافظة المنيا، درس بمدرسة المركز النموذجي لرعاية وتوجيه المكفوفين، ثم حصل علي ليسانس من قسم اللغة الإنجليزية بكلية الآداب في جامعة عين شمس عام 1970، على الرغم من كونه كفيف إلا أن تلك الإعاقة لم تمنعه من ممارسة هوايته التي أحبها منذ طفولته، حيث تلقى علوم الموسيقى الشرقية على يد مجموعة من الأساتذة الكبار بمدرسته الثانوية، في إطار برنامج مكثف أعدته وزارة التربية والتعليم خصيصاً للطلبة المكفوفين الراغبين في دراسة الموسيقى. تمكن بمجهوده الذاتي من إتقان العزف على العديد من الآلات الموسيقية منها البيانو والأكورديون والعود والأورج، ودرس أيضاً التأليف الموسيقي عن طريق مدرسة هادلي سكول الأمريكية لتعليم المكفوفين بالمراسلة، والأكاديمية الملكية البريطانية للموسيقى. بدأ «الشريعي» مشواره الفني عام 1970، كعازف لآلة الأكورديون في عدد من الفرق الموسيقية، ثم تحول إلى الأورج حيث اعتبر نموذجاً جديداً في تحدى الإعاقة نظراً لصعوبة وتعقيد هذه الآلة واعتمادها بدرجة كبيرة على الإبصار، في وقت لاحق اتجه إلى التلحين وتأليف الموسيقى، وكانت أول ألحانه أغنية بعنوان «امسكوا الخشب» للفنانة مها صبري، كما قام عام بتكوين فرقة «الأصدقاء» التي حاول من خلالها مزج الأصالة بالمعاصرة وخلق غناء جماعي يتصدى لمشاكل المجتمع. بلغ رصيد «الشريعي» حوالي 150 لحناً لمعظم مطربي ومطربات مصر والعالم العربي، كما تميز في وضع الموسيقى التصويرية للعديد من الأفلام والمسلسلات التليفزيونية والإذاعية والمسرحيات، والتي نال العديد منها على جوائز على الصعيدين العربي والعالمي.