بعيدًا عن ملامسة المدارس الفنية المعاصرة، وتعاليم وتقاليد معاهد الفنون الجميلة، يُبدع الفنانون التلقائيون بفطرتهم المتوهجة، لينساب فنهم أصيلًا نابعًا من أعماق شفافة، فتأتي منحوتاتهم وتصاويرهم منطلقة بريئة، مُلوحة بأشعة الشمس، ومُشبعة بماء النيل، ومسكونة بالقلق والخوف والشجن الأبدي،لم تفسدها السلطات الأكاديمية المعلبة، أو رواسب المدن الصناعية المزدحمة، لكن الدولة ممثلة في المؤسسات الثقافية لا يروق لها هذا الفن الفطري، أو بالأحرى تخشى تحرره. منحوتات «اللبان» المهانة والمحطمة بحارة حوش قدم العتيقة، كانت دافعنا للبحث عن هؤلاء الفنانين الفطريين، بالطبع كانت رحلة شاقة، وكأنها تجسد مقولة "الصحافة مهنة البحث عن المتاعب"، نصحنا أحد النقاد التشكيليين بالتوجه إلى إدارة الفن التشكيلي بالهيئة العامة لقصور الثقافة لنصطدم بالبيروقراطية الحكومية، التي لا تفرق بين الحرفيين والفنانين الفطريين. وقعنا نحن تحت براثن المديرة التي رفضت منحنا أية بيانات خاصة بهؤلاء الفنانين دون جواب رسمي من المؤسسة الصحفية التي نعمل بها، وبعد منحها الجواب، اكتشفنا أنه ليس ثمة مشكلة في الجواب، لكنها في الحقيقة لا تُفضل البحث عن أسماء هؤلاء «الفطريين» في أدراج لم تُفتح منذ الثمانينات! وأمام إصرارنا على الحصول على المادة بعد وصول رئيسها في العمل- بالطبع بعد عدد كبير من الساعات- حصلنا على بيانات 30 فنان على مستوى الجمهورية، ونطقنا الشهادة.. جلال حُزين: "نهضة الفيوم" كان سببًا في سجني كانت دهشة النحات الفيومي جلال حزين، البالغ من العمر 68 عامًا، كبيرة حين اتصلنا به، إذ يقول إنه منذ أعوام بعيدةلم يهاتفه أحد ليتحدث معه عن منحوتاته التي تملأ أركان منزله- فقط منزله-ليحكي لنا عن منحوتاته وظروفه الحياتية. يقول العم جلال: منحني الله موهبة وأسرة فقيرة، ولذلك لم أُكمل دراستي بعد الحصول على الشهادة الإبتدائية، وأعمل موظفًا بالطرق والكباري. تمثال "نهضة الفيوم" كان أول منحوتاتي وله قصة لن أنساها، بسببه أُلقيت في السجن لمدة 21 يومًا، إذ اتهموني بأنني تاجر آثار، لتأثري بالنحت الفرعوني، فأنا شديد التأثر بهذا الفن لأنه يحكي الماضي والحاضر والمستقبل. يتابع: ألهمتني ثورة 25 يناير الكثير من الأعمال، من بينها تمثال يصور مصر حاملة الهرم الكبير، أتمنى عرضه قريبًا بأحد المعارض، ولكن يبدو أن هذه أمنية مستحيلة ربما لا تتحقق في حياتي، فالدولة غير مهتمه بالفن الفطري نهائيًا، لكن السعادة تغمرني حين يأتي الأجانب ليشاهدوا أعمالي، وفي نفس الوقت أحزن حين يمنعني الفقر عن مضايفتهم بفنجان شاي أو قهوة. دوي عثمان: أعمل بياض محارة ولكنني موهوب الفنان بدوي علي عثمان، الذي يعمل بياض محارة بمحافظة الإسماعيلية، ينطلق في الحديث عن فنه متباهيًا بمنحوتاته دون أن يمنحنا فرصة لسؤاله عنها، يبادرنا "أعمل بياض محارة ولكنني موهوب". بتلقائية متسقة مع أعماله يتابع حديثه معنا: أمارس النحت باستمرار دون الالتفات لظروف المعيشة الصعبة أو الدولة التي تتعالى علينا، وترفض الفن خارج الأُطر العلمية. مُعاناة الوطن ومأساة الإنسان الفقير هي القضايا التي أُحاول تجسيدها بالجداريات الجرانيتية، والرخامية، واهتمام الدولة بهذا الفن من عدمه لا يقف عائقًا أمام موهبتي التي تلح علي في نصف الليل ربما لأقوم بترجمة مشاعري تجاه مشهد ما أثر في وجداني، إلى منحوته أعتز بها وأعتبرها أحد أبنائي.. ويحكي «عثمان» عن اكتشاف الدكتور أحمد عطيتو- أستاذ النقد بجامعة قناة السويس له، قائلًا: حين شاهد أحد منحوتاتي التي تتناول مأساة الأسرة الفقيرة، وعلى الفور ساعدني على المشاركة في بينالي بورسعيد. محروس خالد: ننتظر منحة التفرغ الفنون الشعبية هي محور أعمال النحات محروس محمد خالد، البالغ من العمر 54 عامًا، يقول "أتذكر جيدًا أول تمثال قمت بنحته، كان يُجسد أحد الطبالين، وأعترف أنني مولع بالفن الشعبي وهو محور أعمالي". ويحكي لنا عن نشأته وسط الطبيعة الخالدة بمحافظة الوادي الجديد، والتي يرى أنها سببًا أساسيًا في إشباع موهبته. وعن معاناته يقول: بالكاد حصلت على الشهادة الإبتدائية، ومنعني الفقر من إكمال تعليمي، لكني أحمد الله على موهبة الفن. ومنحة التفرغ كانت تساعدني كثيرًا على العمل لكنها الآن متوقفة، ولعل المسؤولين بوزارة الثقافة يمنوا علي بهذه المنحة حتى استطيع مواصلة أعمالي. "منحة التفرغ" كانت هي أيضًا محور حديث كل من الرسام الجنوبي عادل محمد السعيد والفنان علي خميس، إذ قالا إن منحة التفرغ كانت تُهدئ من سخطهم على الدولة التي تنظر إليهم بطرف عينيها، وتحفزهم على تفريغ موهبتهم في أعمال يتلهف عليها الأجانب، لكن الدولة صارت تبخل عليهم بتلك المنح، لتسد الطريق تمامًا أمام أمثالهم من التقائيين. لم تفارقنا تماثيل النحات الراحل محمود اللبان المحطمة ببيته القديم بحارة حوش قدم، طوال حديثنا مع هؤلاء الفطريين، وتذكرنا حديث نجله «رمضان» معنا خلال التقرير المصور الذي أجرته «البديل» الشهر الماضي، بخاصة حين أخبرنا العم رمضان عن رغبتنا في إجراء حوار معه عن والده الذي كان قريبًا من الثوار الحقيقيين الشيخ إمام، أحمد فؤاد نجم، الفنان التشكيلي محمد علي، حيث كانوا يعيشون معاً في حارة خوش قدم، أحضر سلم خشبي، وصعد عليه بخفه بالغة، ليأتي بتماثيل الفنان الراحل من "السندرة". انتابنا الحزن حين شاهدناه يزيح التراب الكثيف من فوق الوجوه التي برع والده في نحتها ويلملم أشلاء التماثيل المحطمة، حتى أن أحد أصدقائي قال بغضب "إزاي يعمل في منحوتات أبوه كده، وإزاي يحطها في المكان ده!"، لكنه لم يدرك أن العم رمضان لا يملك سوى غرفه المعيشة الآيلة للسقوط تلك.بينما كان السؤال يفرض نفسه "هل هذه هي النهاية الحتمية للفن الفطري في مصر؟" نجيب: الثقافة تتعامل بطبقية مع الفنان الفطري "بات من غير المنطقي أن نتحدث عن الفن الفطري، في بلدٍ تغيب عنه أي سياسة أو استراتيجية ثقافية، رغم الادعاءات المتكررة عن وجود هذه الاستراتيجية" كانت هذه العبارة الصادمة هي بداية حديث الفنان والناقد التشكيلي الكبير عز الدين نجيب معنا، إذ يقول: لا أحد يبالي بالفنانين الفطريين، فالفن الفطري في مصر يعاني اليتم، قمنا بتنظيم العديد من المؤتمرات التي تبحث في كيفية احتضان هذا الفن والاهتمام به، واقترحنا تأسيس نقابة مستقلة له، ولا شيء يحدث، وتُسأل هيئة قصور الثقافة في هذا الموضوع لأنها من المفترض أن تكون الراعي الأول لهذا الفن، والباحث عن فنانيه في المحافظات المختلفة. وأعتقد أنه منذ الثمانيات لم تُنظم الهيئة معرضًا للفنانين الفطريين، والأسوأ من ذلك أنها لم تقم حتى الآن بإصدار كتاب وثائقي يضم تجاربهم من النوبة حتى الأسكندرية. ويتابع «نجيب»: هناك خلط لا يجوز بين الحرفيين والفنانين الفطريين، لسبب بسيط هو أن الحرف التقليدية تسير وفق تقليد متوارث لا تحيد عنه، أما الفنان الفطري فلا يتبع أي تراث أو تقاليد، وإنما تنبع موهبته من الفطرة التي تقوده إلى التعبير الفني، كما أن هناك عقدة لدى المؤسسات الثقافية في تعاملها مع ذلك الفن، إذ تتعامل معه بطبقية، وتنظر إلى الفنان التلقائي باعتباره طبقة دنيا، وأنا أرى أن هذا الأمر غير إنساني، ويفتقد للنقد الموضوعي، فهناك بعض تجارب الفن الفطري التي تفوق تجارب الفنانين الأكاديميين أو المحترفين، وهناك تجارب أخرى تصل في قوتها إلى أعمال فنية حديثة، فهناك تماهي بين الفن الفطري والحديث وما بعد الحديث، لأن الفن الذي ينتمي إلى تيار ما بعد الحداثة اتجه فيه الفنان إلى الفطرة الأولى. يفتش "الناقد الكبير" في ذاكرته عن أسماء بعض التلقائيين، ويسرد لنا حكاياته معهم: أتذكر الفنان الراحل رمضان سويلم، الذي تجاوز بفنه الحدود المحلية، واحتفت به ألمانيا احتفاءًا كبيرًا، وقامت بإنتاج أفلام وثائقية عنه.. كان حالة فريدة لا تتكرر بسهولة، وأتذكر أيضًا بائع اللبن النحات محمود اللبان، والرسام محمد علي، كتبت عنهم كثيرًا وكان لي الكثير من الأحاديث معهم حول فنهم الطازج. ومن المعاصرين أذكر الفنان المبدع حسن الشرق، الذي ذاع صيته في ألمانيا وأمريكا في الفترة الأخيرة، وهو فنان ذو بصمه خاصة، تضعه في مقدمة الفنانين العالميين. أسامة عفيفي: المؤسسات الممولة تسرق أعمال الفطريين الناقد التشكيلي والكاتب الصحفي أسامة عفيفي، يرى أن الفن الفطري يعاني من كارثة كبيرة، لا تنتبه الدولة لها، ويوضح: هناك الكثير من المؤسسات الممولة والتي تأخذ أعمال هؤلاء الفنانين لتبيعها للخارج، والسبب في ذلك يرجع إلى عدم اهتمام المؤسسات الثقافية بهؤلاء الفنانين، لكي أن تتخيلي أن قطاع الفنون التشكيلية لم ينظم سوى معرضًا يتيمًا عن الفطريين. هذا الفن من المفترض أن يكون مصدرًا من مصادر الدخل القومي كما هو الحال في الكثير من البلدان، لكننا هنا لا نعترف به. محمد كمال: الظاهرة تحتاج لتوصيف فني وفكري لكن الناقد محمد كمال يرى أن المشكلة لا ترجع فقط إلى عدم اهتمام الدولة بالفن الفطري أو التلقائي، بل تعود إلى عدم وجود توصيف فني وفكري دقيق لهذه الظاهرة، إذ يقول: لا توجد أي دراسات نقدية جادة عن الفنانين الفطريين في مصر، بل إن الكثير من النقاد لا يفرقون بين الفنان التلقائي والحرفي، والمشكلة الأخرى أن البعض يصف الفنان الفطري ب"الساذج" ويحاول توجيهه لضوابط تشريحية معينة، تلك الضوابط تفقده روحه البكر وطزاجته. ويتابع «كمال»: أعتقد أن الاهتمام بالفن الفطري يبدأ بإصدار كتاب مستقل يتناول تجاربهم حتى نكون على الطريق السليم، كما أرى أن هيئة قصور الثقافة في حاجة ماسة "للكشاف الثقافي" الذي يقوم بالتفتيش عن تلك المواهب في القرى والنجوع.