في الخامس والعشرين من يناير من هذا العام الطويل جدا أخفيت عن أمي وأبي –رحمه الله- وزوجتي وإخوتي أنني سأشارك في المظاهرات المطالبة بالحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية والتغيير الذي طالما حلمنا به، وهي ليست المرة الأولى التي أخفي فيها عنهم خبر اشتراكي في أية مظاهرة احتجاجية حتى لا أتعرض إلى أية ضغوط تثنيني عما أرى أنه الحق، أما إخفائي للأمر فليس إلا خوفا من قلقهم المبرر عليّ لا أكثر. والغريب أنني مازلت أفعل ذلك حتى اليوم رغم علمهم الأكيد بأين أذهب مع كل تأجج للأحداث. خوف أهلي -وأهل كل من شارك جسديا في ثورة الخامس والعشرين من يناير- مبرَّر ومباشر وصريح فهم ضد اشتراكي في بعض الأحداث التي قد تشهد مواجهات مميتة، حتى وإن اتفقوا مع موقفي وتوجهاتي، حتى إن كانوا يدعون لهؤلاء الشباب الذين يصنعون تاريخ الوطن وثورته، (بس معلش بعيد عننا إحنا مش حمل خسارتك). أفهم هذا، وأنا نفسي أحاول أن أمنع ابن أختي طالب الثانوي من المشاركة في الأحداث خوفا عليه للمنطق نفسه الذي كنت أرفضه من أبي وأمي (نعم أنا متناقض أحيانا). قد أفهم أيضا أن هناك محبين لمبارك يرونه مظلوما، والشريف جدا منهم ولم يفقد تعاطفه معه بعد كل ما تكشّف من فساد يرى أن حاشية المخلوع كانت هي كل السبب –وحدها (سبحان الله)- في ما آلت إليه أمور مصر من فساد منظّم وممنهج، وإجهاض ووأد متعمد لكل المشروعات والأفكار القومية، وتزوير فاضح لإرادة الشعب، وتعتيم وتوجيه شمولي للإعلام، وتهجير وتطفيش للعقول، وتدمير للتعليم، وتجريف للثقافة والفن.. إلخ أفهم أيضا أن البعض كان موهوما ومخدوعا ولكنه أفاق بعد أن رأى بأم عينيه حقيقة ما كتبته في الفقرة السابقة، واقتنع بأن إسقاط هذا النظام الفاسد كان فرض عين على كل مصري قادر، وأنه آمن بالثورة والثوار بعد أن نفض عن عقله تراب الإعلام (الهتلري) المُغيِّب للعقول، وباتت عيناه أكثر قدرة على المشاهدة بموضوعية بعيدا عن غيامة التليفزيون والصحافة الحكومية وتوابعهما. أفهم كذلك أن البعض كان يرى كل ذلك الفساد –المذكور في الفقرة قبل السابقة-، وعلى الرغم من ذلك كان مع استمرار مبارك نفسه مع (نتف) بعض من حاشيته، حفاظا على الاستقرار وعجلة الإنتاج، وخوفا من انزلاق البلاد في الفوضى، وما إلى ذلك من مصطلحات تم صكها بعناية للتخويف والتهويل والتخوين. وفوق البيعة أفهم أنه حتى بعد رحيل مبارك حافظ البعض على موقفه الخائف والمرتعش، وإمعانا في الخوف تدثّر برداء الجيش الحامي للثورة، فارتمى في حضن بيانات المجلس العسكري المتناقضة والتي تكذّب بعضها بعضا، ورسائله وقوانينه وإعلانه الدستوري -قبل وبعد تعديلاته المتلاحقة-، وبات يصدّق فقط إعلام المجلس بتليفزيوناته وصحفه القومية وغير القومية، ولم لا وهذا البعض نفسه هو الذي كان يصدق إعلام مبارك؟ أما ما لا أفهمه ولن أفهمه أبدا هو كيف أصبح هؤلاء المتعاطفين والمؤيدين والخانعين والمرتعشين وأنصار العجلة والاستقرار وغيرهم من الفئات، بلا قلب ولا ضمير ولا إنسانية ولا نخوة إلى هذه الدرجة؟ لم يعد منظر الدم يحرّك فيهم شعرة، وقدّموا المبرر تلو الآخر لهتك العرض والسحل والقمع والتعذيب، وفوق ذلك يطالبون بالمزيد! فأي مزيد تطلبون؟ وعن أي وطن أو استقرار تدافعون؟ كيف أصبح الحجر أهم عندكم من البشر؟ كيف حرّك حريق دمعاتكم، ولم يحرّك استشهاد شيخ أزهري وطالبي طب وهندسة وغيرهم مشاعركم؟! سامحكم الله يا من تغتالون الثورة.