أزاحت الأحداث والمتغيرات الجارية في المنطقة العربية ملف القضية الفلسطينية عن صدارة الاهتمام العربي والدولي، حيث انكفأت الدول العربية المؤثرة فى النظام العربى على أزماتها الداخلية ومشكلاتها السياسية والاقتصادية، بينما منحت الاحتلال الإسرائيلي فرصة كافية لتنفيذ مخططاته فى استكمال تهويد القدس وتغيير هويتها السياسية والديموغرافية بإقامة المستوطنات السرطانية وغير الشرعية فى أحيائها وفى الضفة الغربية فى سباق مع الزمن لفرض سياسة الأمر الواقع فى أى تسوية سياسية مستقبلية. فضلاً عن مواصلة الكيان الصهيوني حربه المتقطِّعة على المقاومة في غزة، وهو في راحة من أمره، فقد أدرك أن جرائمه لم تعد تثير إهتمامَ الدول العربية وسُخطها. ولم تعد أية دولة عربية قادرة على تهديد إسرائيل خاصة مصر وسورياوالعراق. فبعد أن جرى تدمير العراق وتفكيك جيشه واللّعب ببنيته المجتمعية بحيث يصبح قابلاً للاشتعال الطائفي والمذهبي والعرقي في أية لحظةٍ يحتاجها المشروع الأمريكي الصهيوني للتمكن من فرض الرؤية الأمريكية، جاء دور سوريا، التي علق وزير الدفاع الإسرائيلي موشيه يعلون على المعارك الدائرة على مشارف هضبة الجولان بين الجيش العربي السوري والجيش الحر بالقول: "إن ما يحدث لا يقدر بثمن"، وينسحب ذلك الموقف على مصر بعد خروجها من معادلة الصراع العربي– الإسرائيلي، وانشغال الجيش المصري بالوضع الأمني الداخلي المتدهور. ولأن المطلوب أن تخرج فلسطين والصراع مع الكيان الصهيوني، ليس من دائرة الأولويات فقط، بل أن تخرج من دائرة الاهتمام، عمل الأمريكان على عدة جبهاتٍ في آن واحد: تدمير البنى المجتمعية في عدد من البلدان (العراق، ليبيا، اليمن)، وإيصال القوى السياسية التي جرى التفاهم معها على المشروع الأمريكي (الإخوان المسلمين) إلى السلطة في مصر وتونس. وعقد الأمريكان مع محمد مرسي والإخوان صفقة يتولى بموجبها الإخوان مقاليد الحكم في مصر، مقابل أن يتنازلوا عن مساحة من سيناء لتشكّل بديلاً لما يجري قضمه من أراضي الضفة الغربية التي أكل الاستيطان 40% من أراضيها، وحلّ معضلة حق العودة. لكن مرسي تمّ إسقاطه، وفشلت كل المحاولات المروّعة التي استخدموها لإسقاط النظام السوري، بما في ذلك استخدام الكيماوي والعناوين الدينية والمذهبية، رغم النجاح الذي حققوه في تدمير البنى التحتية وإلحاق الخسائر الفادحة بالإقتصاد والبنى المجتمعية، فكانت داعش الورقة الأخيرة الصالحة للإستخدام في إطار استكمال المهمة. فداعش جزءٌ أصيلٌ من المشروع الأمريكي في المنطقة وإحدى أوراقه، كلّ ما في الأمر أنّ داعش تخرج من حينٍ لآخر عن النص، فيجري تأديبها، وليس أدل على ذلك من أن ما يقرب من ستة آلاف مسلح من الشيشان والسعودية وقطر والغرب الأوروبي والأمريكي ومن الخليج والمغرب العربي انتقلوا جميعهم عبر تركيا وتحت نظر ومتابعة الأقمار الصناعية الأمريكية إلى الموصل، كما أن داعش تؤدي خدمات جليلة لكل من تركيا و"إسرائيل" حيث تقوم بنقل البترول الى مرفأ جيهان التركي ومنه مباشرةً إلى ميناء أسدود الصهيوني بأسعار رخيصة جدًا قياسًا بالأسعار العالمية، وهي لا تقوم بذلك من خلف ظهر الإدارة الأمريكية والغرب الساعين إلى شطب القضية الفلسطينية وإعادة رسم الخرائط الجيو إستراتيجية في المنطقة بمساعدة تركيا الحليفة الإستراتيجية لكل من الولاياتالمتحدة و"إسرائيل"، كذلك قطر التي تلعب دور "بيت المال" الممول للمشاريع والمتماهية مع المشروع الأميركي الصهيوني استنادًا إلى التفاهم الحاصل مع الإخوان المسلمين والذي يشمل حركة حماس الموعودة بإدارة "الدولة الموعودة" في غزةوسيناء، ثم المملكة العربية السعودية صاحبة الفكر الوهابي المتقاطع مع الفكر الصهيوني في عدة رؤى وأفكار. فالخطر الأكبر الآن على القضية الفلسطينية لا ينبع فقط من إسرائيل، بل أيضا من التخاذل العربي وتشرذم المواقف العربية وانخراط الدول العربية فى حالة استقطاب وصراع وصدام لن تفيد سوى أعدائه وعلى رأسهم إسرائيل ويتيح لها الفرصة للقضاء على ما تبقى من القضية الفلسطينية وإدخالها فى طور النسيان. في الوقت الذي حقق فيه الفلسطينيون انتصاراً مدوياً، رغم الخسائر البشرية التي ألمَتْ بهم بعد العدوان الصهيوني الأخير على قطاع غزة، وتدمير البنية التحية، ومجمعاتهم السكنية وبيوتهم، إلا إنهم صمدوا وأجبروا العدو الصهيوني المحتل، على وقف إطلاق النار، والقبول بفك الحصار عن القطاع بفتحه المعابر، ومناقشة موضوع الميناء البحري والمطار الدولي، والإفراج عن الأسرى، وكانت أهم مطالب العدو الصهيوني، سحب سلاح المقاومة، وهذا ما لم يتم حتى مجرد نقاشه. ورغم ما حققته المقاومة من انتصار وصمود، إلا أن حركة حماس تعلم أنها لن تستطيع تلبية كل الوعود التي وعدت بها الجماهير "الغزاوية"، خاصة في ظل تعنت الاحتلال وخذلان مصر، وموقف السلطة التي تحاول مسايرة الموقف المصري، وعليه، فأية إطالة لأمد المعاناة للمشردين، ستعني تآكل الشعبية الغامرة التي حصلت عليها حركة حماس خلال وبعد العدوان. ولذا كانت "القنبلة المدوية" التي أطلقها موسى أبو مرزوق حول استعداد حماس للتفاوض مباشرة مع الكيان الصهيوني، بمثابة رسالة مباشرة ليس فقط للإسرائيليين، بل رسالة جلية إلى السلطة الفلسطينية ومنظمة التحرير الفلسطينية، لا تخفي استعدادا مبطناً لإتباع نفس المسار الذي سارت عليه المنظمة، وأن البديل عن المنظمة جاهز تماما، وهو بديل يتمتع بالقدرة والقوة، ومدعوم بشكل كبير على المستوى الشعبي والجماهيري، ليس فقط في فلسطين، وإنما بين الجماهير العربية والإسلامية، خاصة بعد العدوان الشرس على قطاع غزة، حيث تتوفر مناخات غير مسبوقة مؤيدة لحركة حماس. إلا أن التفاوض الذي تم الإعلان عنه من قبل أبو مرزوق، ومحاولة تفسيره بالمباشر وغير المباشر، ليس هو بيت القصيد، وإنما الفكرة التي صارت تروج لهذا النهج الذي كان مرفوضا بتاتاً من قبل حركة حماس، التي بدأت تضعف للأسباب التالية: 1. خسارة حاضنتها العربية بسبب انشغال دول الربيع العربي بأوضاعها وأزماتها الداخلية. 2. الانقسام الفلسطيني الداخلي وما تركه من آثار سلبية على جميع الأصعدة ومن ضمنها المقاومة بمختلف أشكالها. 3. الأزمة السورية التي خلقت اصطفافات جديدة لدول وحركات المقاومة، فحزب الله تدخل في الأزمة السورية ووقف إلى جانب الجيش العربي السوري والدولة السورية في حين وقفت حركة حماس إلى جانب المعارضة السورية المدعومة من الغرب، وخرجت حماس من سوريا مما أدى إلى انقسام قوى المقاومة بدلاً من تكتلها. لذا لا سبيل أمام قوى الممانعة سوى التكتل لإستعادة الحقوق وانتزاعها عبر سلاح المقاومة كونه الخيار الحقيقي والأجدى لمواجهة العدو الاسرائيلي، فما أخذ بالقوة لن يسترد بغير القوة.