منذ نهاية تسعينيات القرن الماضي، شكلت اكتشافات الغاز الضخمة شرق البحر المتوسط، نقطة تحول استراتيجية في سيرورة الكيان الصهيوني، فعمل على الاستئثار بها بفعل الاحتلال، أو التفاهمات السياسية والاقتصادية مع قبرص، أو التنازل والتخلي من جانب مصر. هذه الاكتشافات أطلق عليها تسمية "الكنز الاستراتيجي لإسرائيل"، وهي التسمية التي اطلقت من الدوائر الاستراتيجية والاقتصادية في الكيان وانتقلت إلى الدوائر الإعلامية والسياسية، ولخصت ما يعنيه اكتشاف الغاز واحتياطه الضخم للكيان الصهيوني ليس فقط كمصدر للطاقة، ولكن أيضاً كركيزة استمرار وبقاء. في العشرين من الشهر الجاري، وقبل خمسة أيام من وقف إطلاق النار، أعلنت المقاومة استهدافها "مرتين" لمنشأة نفطية إسرائيلية بصواريخ القسام. قابل ذلك من الجانب الإسرائيلي نفي أن تكون تعرضت منشأته النفطية لأي أضرار، ولكن لم ينفي أن تكون استهدفت بالفعل ولكن دون إلحاق ضرر بها. أعادت هذه الحادثة مسألة غاز شرق المتوسط ومسألة استثماره وتأمينه إلى السطح مرة أخرى، فغني عن القول أنه مهما كانت حجم الاكتشافات النفطية كبيرة ومغرية، فأنه يلزم للاستفادة منها اقتصادياً أن تكون في منطقة تنعم باستقرار وهدوء أو توفير ذلك كحتمية لبدء استخراج النفط أو الغاز، وهو الأمر الذي لايتوفر إلى الأن بشكل كامل، ومرشح للتصعيد طردياً بالتوازي مع تصعيد عسكري تبادر إليه دولة الاحتلال بمعدل مرة كل عامين منذ 2006. اكتشافات الغاز والنقلة النوعية للاقتصاد الإسرائيلي بما أن الاقتصاد الإسرائيلي هو اقتصاد مالي وخدمي، والتصنيع فيه قائم بالدرجة الأولى على تطوير الصناعات التكنولوجية والحاسوبية، وبخلاف صناعة الماس والصناعات العسكرية والصناعات الغذائية المحدودة، لا يوجد في إسرائيل صناعات ثقيلة قائمة على النفط أو التعدين، إلى أن شكلت اكتشافات الغاز في شرق امتوسط أمل في تحول الاقتصاد الإسرائيلي إلى اقتصاد ريعي وصناعي، فتقديرات تل أبيب لحجم الغاز المكتشف تبلغ حوالي 450 مليار متر مكعب –منها حوالي النصف في عرض البحر أمام سواحل لبنانوغزة- تضعها في المركز التاسع عالمياً من حيث الدول التي تمتلك اكبر احتياطيات الغاز في العالم، وهو ما يعني تحول الكيان إلى قوة اقتصادية كبيرة مهيمنة على شرق المتوسط ودول الشرق الأوسط في حال تحول قطاع التعدين والبترول فيها إلى نموذج اقتصاد ريعي/صناعي، يضعها في مصاف الدول الكبري، من حيث كم الطاقة المستخرج والمستغل صناعيا وتصديرياً. ثلاث عوائق وقفت أمام تل أبيب في مسألة استثمار الغاز الذي يقدر عمر نضوبه بأربعين عام، الأول هو مسألة ترسيم الحدود البحرية وتقاسم المشترك من حقول الغاز مع الدول المعنية، والثاني هو كيفية تسويق الغاز المستخرج، والثالث حماية "الكنز الاستراتيجي". العائق الأول تم تسويته مع قبرص ومصر، سواء بتقاسم مراحل وأرباح الغاز في الحقول المشتركة عن طريق اتفاقيات اقتصادية بين تل أبيب ونيقوسيا. وبالنسبة لمصر، فيشكل ملف الغاز بين الدولتين علامة استفهام كبرى على أسئلة اهدار وفساد أستمر منذ بداية الألفين وحتى الأن، ولكن فيما بدا أن الحكومة المصرية في عهد المخلوع حسني مبارك قد أهدرت حقوق مصر في غاز المتوسط مرة وإلى الأبد، لتصبح إسرائيل دولة مُصدرة للغاز إلى مصر بعدما كان يحدث العكس حتى عام2012. "كنز إسرائيل الاستراتيجي" كهدف للمقاومة فيما تبقت لبنانوغزة خارج "التسويات الغازية"، لكن مع تصميم لبناني مدعوم بقوة تستطيع الدفاع عن حقوقها في حالة التعدي عليها، وبدء إسرائيل في سرقة غاز لبنان الغير مستغل لأسباب اقتصادية وسياسية لبنانية عدة. وبالنسبة لغزة، فمنذ التسعينات وتماطل دولة الاحتلال في مسألة استخراج السلطة الفلسطينية لما تفوق قيمته السوقية الستة مليارات دولار من آبار الغاز الموجود قبالة سواحل غزة، والتي بدأت إسرائيل منذ سنوات قليلة استنزافها وسرقتها عن طريق منصة "نوعا". كما شكل احتياطي الغاز الإسرائيلي نقطة قوة لإسرائيل، إلا أنه اصيح أيضاً هدفاً للمقاومة، فمثلما ما كانت المجمعات الصناعية والخدمية والترفيهية شمال إسرائيل هدفاً لصواريخ المقاومة اللبنانية، نهاية بحرب 2006 التي قُصفت فيها حيفا، الميناء الاقتصادي الأهم للكيان. وأيضاً منذ عام 2012 حيث قصفت تل أبيب للمرة الأولى بصواريخ المقاومة الفلسطينية في غزة، ومرة أخرى خلال الحرب الأخيرة، حيث غطت صواريخ المقاومة كل فلسطينالمحتلة. كان ضرب العمق الإسرائيلي هو الزلزال الذي أصاب الإسرائيليين عسكرياً ومدنياً في مقتل، فبعد نغمة "الدولة رقم واحد أماناً في الشرق الأوسط" التي سادت في عقد التسعينات، لم تلبث أن أزالتها المقاومة منذ 2001، سواء بالصواريخ شمالاً، أو العمليات الإستشهادية في عمق الكيان. وما بين 2000 و2014 هناك نقطتي تحول رئيسيتين: الأولى قصف المدمرة "ساعر-5″بصاروخ أرض بحر اثناء حرب تموز 2006، وقصف منصة "نوعا" البحري بصاروخين أطلقا من غزة قبل 10 أيام، كتصعيد أخير للمقاومة قبل وقف إطلاق النار. نقطة التحول الأولى في 2006 لم تنبه الإسرائيليين إلى تعرض سلاحهم البحري للخطر بعد معامل خطر صفر منذ إغراق المدمرة إيلات عشية حرب 1967 فحسب، ولكن نبهتهم أيضاً أن منشآت حقول الغاز أيضاً في خطر وفي مرمى نيران المقاومة. وهو ما تكرر مرة ثانية منذ أيام باستهداف منصة التنقيب سابقة الذكر، وهو ما شكل نقطة التحول الثانية، التي أثبتت أن كل اجراءات التأمين العسكرية للمنشآت النفطية عقب حرب تموز وحتى العام الجاري لن تضمن الوقاية بنسبة مئة بالمائة. فمنذ 2006 ضُمت حماية المنشآت النفطية سواء على سواحل فلسطينالمحتلة أو في عرض البحر إلى عملية تأمين الجبهة الداخلية لإسرائيل التي فُرضت لها ميزانية بمليارات الدولارات في أعقاب حرب تموز، فعملت إسرائيل على تأمين منشآتها النفطية في البحر بتشكيل قوة بحرية خاصة مرت بثلاث مراحل: الأولى تتكون من قوات ضفادع بشرية وقوارب سريعة وطائرات بدون طيار وتدخل في نطاق عمل حرس السواحل، المرحلة الثانية وتمت بشراكة امريكية وكان الغرض منها بالأساس مراقبة حركة السفن القريبة من سواحل غزة لضمان عدم تهريب الأسلحة، وأدرجت حماية المنشآت النفطية العاملة ومراقبتها بأنظمة استشعار متصلة بالأقمار الصناعية، الثلاثة وهي الأكثر تطوراً وكانت أيضاً بتعاون أمريكي منبعه الحفاظ على مصالح الشركات الأمريكية النفطية العاملة في إسرائيل، فتوسعت قوة حماية المنشآت البحرية النفطية لتستقل عن قوات حرس السواحل، وتشكل في حد ذاتها قوة خاصة مثلت أعلى مراحل التطور في الحماية البحرية عسكرياً كماً وكيفاً؛ فأولاً أصبحت هذه القوة البحرية الخاصة تابعة لرئاسة أركان جيش العدو، بتوصيات من وزارة الشئون الاستراتيجية، وتوسع نطاق عملها ليشمل المياه الدولية قبالة صيدا وصور في لبنان شمالا وحتى رفح جنوباً. وتضم هذه القوة أربعة فرقاطات امريكية صُنعت خصيصاً لاستخدامها من جانب القوة الخاصة الإسرائيلية، وتتسلح هذه الفرقاطات بأنظمة دفاع صاروخي مماثلة لأنظمة الدفاع الصاروخية الموجودة على حاملات الطائرات الأمريكية، وأخرى هجومية لضربات استباقيه لأهداف بحرية أو ساحلية، وتشمل أيضاً منظومة مراقبة واستطلاع ورصد وإنذار مبكر. لا "قبة حديدية" تحمي حقول الغاز اجراءات حماية المنشآت النفطية الإسرائيلية في البحر لم تحقق نجاحاً يتجاوز نجاح منظومة القبة الحديدية وأخواتها، فقط الفارق أنه لم يتم اختبارها بنفس الكثافة التي حدثت مع العمق الاسرائيلي كهدف لصواريخ المقاومة، فحادثة قصف منصة "نوعا" يمكن تفسيرها على أنها كانت ورقة تصعيد اخيرة للمقاومة مع توحش القصف الإسرائيلي على غزة أواخر أيام العدوان. لكن أيضاً هناك دلالة هامة يمكن أخذها في الاعتبار، وهي أن المقاومة تستطيع أن توجه صواريخها إلى "كنز إسرائيل الاستراتيجي" في أي تصعيد عسكري قادم، خاصة وأن إسرائيل ستصل العام القادم إلى نسبة خمسين بالمائة من قدرة تشغيل حقول شرق المتوسط التي تستحوذ عليها. وهو مايلزمه "هدوء نسبي" في منطقة شرق المتوسط، ليس لفائدة إسرائيلية فحسب، ولكن أيضاً لفائدة سوق الطاقة الأوربي الذي ينظر إلى احتياطي شرق المتوسط كبديل اختياري لغاز روسيا. أيضاً ربما تسلك المقاومة نفس منهج الاحتلال حيال غاز قطاع غزة، الغير مستغل منذ خمسة عشر عام بسبب الحصار والحروب الاسرائيلية المتوالية، فلم تستطع أي شركة تنقيب العمل في محيط تشتعل فيه الحروب مرة كل عامين أو أقل، مايعني أن المقاومة ربما تقلب المعادلة هذه المرة تجاه الغاز الإسرائيلي، أو تفرض معادلة طويلة الأمد طرفيها هدوء عسكري مقابل ميناء ورفع الحصار عن غاز غزة الغير مستغل بسبب الاحتلال.