إنَّ ما نعانيه اليوم من حالة التباس شبه كاملة، في ظل غيبة واضحة للحقائق، وإغفال للشواهد، وإصرار جلي من قِبل من احتكروا التحكم في مصائر الناس على التضليل بقصد الإلهاء- ليس مما يمكن حسبانه من الأمور الطبيعية، بل هو نتاج لعقود من التجهيل، ومعاداة العلم ومجافاة المنطق، ورمي الفلسفة بالنقائص جملةً، وإحالة كل ما ينتجه الواقع من تعاسة ودمار إلى القدر المقدور، وأن ليس في الإمكان أبدع مما كان، ونحن نرى هذا البوارالعقلي لم يعد قاصرًا على فئة بعينها في مجتمعنا، بل اتسعت رقعته؛ ليصل إلى السواد الأعظم من العقول على اختلاف البيئات والطبقات والتعليم، وهو مايعني أنَّنا سقطنا في هوة بائسة تتزيا فيها الأباطيل ثوب الحقائق، وتتجلى فيها المغالطات في إهاب المنطق، فهل ألزم الآن من الاعتصام بالمنطق، وإعادة بعث الرغبة في النفوس إلى التزامه والعمل به؟ لدحض كل فرية من شأنها أن تلبس على الناس حالهم ومآلهم من خلال تلك الآلة الإلهائية المسماة بالإعلام. وبحسب التعريف فإنَّ المنطق هو العلم الذي يبحث في القواعد العامة للفكر الصحيح، وتحديد الشروط التي بواسطتها يصح الانتقال من أحكام فُرضت صحتها إلى أحكام أخرى تلزم عنها، وهو ما يتبين لنا منه أمران: أولهما أنَّ المنطق يساعد على تجنب الخطأ في التفكير، والزلل في مهاوي الأوهام، وثانيهما أنَّ أهم موضوعات المنطق هو الاستدلال الذي ننطلق فيه من المعلوم إلى المجهول، كما تكمن أهمية المنطق في أنَّه دعامة الفهم لمبادئ وأسس الاستدلال المنطقي ومناهجه، كما أنَّه أداة التمييز بين الأدلة السليمة وغير السليمة، وبين الأدلة الكافية وغير الكافية على النتائج؛ لذلك فقد عرِّف المنطق بأنَّه "الآلةُ القانونيةُ التي تعصم الذهنَ عن الخطأِ في الفكر". من أجل ذلك كان من الضروري لكل نظام حكم يطمح لإحداث حالة من الإلهاء العام أن يستبدل المغالطة بالمنطق، ومن أجل إيجاد نوع من القبول للمغالطة كان لابد لها أن تتزيا بزي المنطق؛ لتصبح حالة من الخداع قيد الاكتمال، ونحن نقصد بالمغالطة هنا كل "قول أو رأي أو فكرة، تبدو كأنَّها برهان صحيح أو سليم، ولكنَّها وهم يتلاشى أمام التحليل العقلي" لذلك فإنَّ المغالطات المنطقية تعد من أكبر العوائق التي تحجب عنا الحقيقة، وتجعلنا مسلوبي الفكر أمام المتاجرين بالكلام البليغ الأجوف، وأصحاب الخطاب المخاتل، وأرباب المنابر الذين يعتمدون الفُجر في الخصومة شرعةً ومنهاجًا؛ لهذا فإنَّ الكشف عن المغالطات يمنحنا قدرة كبيرة على التفكير النقدي الذي هو سبب كل تقدم عرفته الإنسانية. وتعتمد المغالطة كاستراتيجية أساليب عديدة تتبدى في غض الطرف عن تمحيص الأفكار للوصول إلى مدى صحتها؛ بإسقاط أهلية أصحاب تلك الأفكار بتشويههم بالتطرق إلى حياتهم الخاصة، وإذا استلزم الأمر النظر في تلك الأفكار، فإنَّ ذلك يكون بالالتفات عما تعرضه صراحةً إلى التفتيش في المرامي الدفينة، والنبش في ذات الصدور، أو الاتكاء على ما في هذه الأفكار والرؤى من إبداع وتجديد يخالف الموروث أو يعرِّض بالثوابت. ومن الأساليب المعتمدة أيضًا في المغالطة لإقناع الناس بما لايمكن الاقتناع به، استخدام ثقتهم المسبقة في المصدر؛ لتمرير الأكاذيب التي تتأبى على التصديق، فما كان للزعيم الملهم أو العالم الجليل أو الشيخ الثبت أن يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وبالقطع فإنَّ العصمة المدعاة تلك تكون سبيلا ميسورًا للترويج لأكثر المقولات إفكًا وغيًا. كما أنَّ من أكثر هذه الأساليب شيوعًا ما يمكن تسميته بالهروب للأمام أو الخلف، فنتيجة لانعدام القدرة على التعامل مع مشكلات الواقع – بالقطع فإنَّ ذلك مردُّه إلى تدني الكفاءة في كافة المجالات- يعتصم المغالط بالماضي، وبما كان وبما تم إنجازه، وما تمت مواجهته من تحديات، وما تم تجاوزه من صعوبات، أو يلجأ إلى الإحالة والإرجاء والتسويف، أو تسويق المستقبل غير المؤسس على معطيات الواقع، في اللحظة الراهنة، هذه اللحظة التي يتم إحاطتها بالمحظورات المضخمة بفعل الآلة الإعلامية: فليس أدعى للقبول بالواقع التعيس على رداءته، والصمت إزاءه من أن يكون الوطن مستهدفًا في وحدته، مهددًا في وجوده! ويبدو أنَّه لم يعد ثمَّة فارق بين أنظمة الحكم الديمقراطية، ونظيرتها الاستبدادية، فالشعوب- في كل الأحوال- مستهدفة بالإلهاء عن قضاياها الأساسية ومعاركها المصيرية وحقوقها المستلبة لحساب الأقلية المستحوذة على المال والسلطة، فمع انصراف الجماهير عن ضروريات حياتها وأهمها الاقتصاد تصبح لغة الأرقام والبيانات والإحصاءات ومحاولات استقصاء الحقيقة – أمر شديد الثقل على النفس ، وتصبح الحالة العاطفية هي الأنسب والانسياق لها هو ما ترغبه النفس وتسكن إليه، هذه الحالة التي يتم استثمارها الآن على نطاق واسع، وتتحقق بقوةٍ مستفيدةً من هذا الإنهاك الفادح للقدرات العقلية لأغلبية المواطنين- بفعل الإعلام الموجه والمردود الضعيف جدًا للتعليم على مدى عقود، وأثر ذلك على الذاكرة الجمعية، التي أصبحت – في أحيان كثيرة- ملساء لا يعلق بها شيء، يتزامن هذا مع العمل الدائب على ترسيخ فكرة الجدوى المؤكدة للحلول الفردية؛ إذ أنَّ العمل على حل هذه المشكلات بشكل موسع سيستغرق وقتًا طويلا حتى يحقق الاستجابة المطلوبة. إنَّ خطورة غياب المنطق في مجتمعنا لا تعدلها خطورة، فنحن بدون الاحتكام للمنطق سنغرق في بحر من الأوهام لا قرار له، وسنكون عرضة لقبول كل انهيارٍ وتردٍ مهما بلغت درجة فداحتهما، كما أنَّنا سنفقد القدرة على المعرفة التي تمنحنا القدرة على المواجهة، لكل من يريد أن يستحوذ علينا بالتضليل، والخداع واحتكار كل أداة من شأنها أن توسع الفجوة المعرفية بين الأنظمة والمواطنين؛ فلقد توصلت تلك الأنظمة بفضل البيولوجيا العصبية وعلم النفس التطبيقي إلى معرفة متقدمة بالكائن البشري، نفسيًا وبدنيًا، ربمابأكثر مما يعرف هو ذاته، وذلك على حد تعبير( تشومسكي).