ربما يصدق هذا العنوان لوصف طبيعة المشهد السياسى المصرى الراهن، حيث الاشارات المتناقضة والتصريحات المتضاربة التى من شأنها أن تفرض حالة من الايحاء، بأن شيئاً ما يحدث ضد حقيقته، وربما مخالفاً لطبائع الأمور. يصدق ذلك مع اصرار ماكينة الإعلام على تسمية "مشروع قناة السويس الجديدة"!! حتى باتت نسبة ليست بالقليلة تتصور أنها ستشارك فى حفر قناة سويس جديدة، عطفاً على وصف هذا المشروع "بمشروع القرن" مما يعمق من الايحاء والاعتقاد. وفى حدود ما يتوافر لى من معلومات وحقائق، يمكننى القول، أننا لسنا بصدد حفر قناة موازية للقناة الأصلية، والتى يبلغ طولها قرابة 196 كم، حيث أن جملة ما سيتم حفره على "الناشف" لا يتجاوز 76 كم، وتلك نسبة لا تقارن بطول القناة الحالية. والتساؤل الذى يطرح نفسه: هل هى قناة جديدة؟ أم "تفريعة" وربما أكثر؟ ويؤكد عدم كونها ليست قناة جديدة اعتبارات تتعلق بالأمن القومى. وكان الأجدر، وبعيداً عن هذه الضجة الإعلامية تسمية المشروع "تطوير وتعميق قناة السويس". وهذا لا يقلل من الفؤائد الاقتصادية المتوقعة، سواء لجهة مضاعفة دخل القناة من العملات الصعبة، نتيجة زيادة عدد السفن العابرة، من الجنوب للشمال وبالعكس، نتيجة عمليات التتريك المتوقعة بما يتناسب مع غاطس السفن العملاقة، وتقليص ساعات عبورها، أو من أى مشروعات أخرى ذات صلة، ناهيك عن قطع الطريق عن أى محاولات إقليمية لحفر قناة بديلة. والخلاصة هنا: لماذا لا نسمى الأشياء بمسمياتها الحقيقية. وفى السياق نفسه، تتولد عدة تساؤلات حول قرار زراعة 4 ملايين فدان جديدة، وهو قرار هام يزيد من مساحة الرقعة الزراعية بعد عمليات السطو على الأراضى الزراعية وتبويرها والبناء عليها. ويبقى التساؤل: كيف سيتم توزيع هذه الأراضى المستصلحة والمنزرعة؟ ومن المستفيد منها؟ وهل سيكون مصيرها مثل مشروع "الصالحية الجديدة" وتكالب أصحاب السطوة والنفوذ عليه؟ أم سيوزع على الشباب بعد إكمال كافة المرافق فى مناطق المشروع المختلفة، وتكوين تعاونيات لبيع المحاصيل وتسويقها بما يحد من أزمة البطالة المتفشية، وغيرها من التساؤلات. ومن القرارات الغريبة وغير المدروسة، وبما يترتب عليها من أضرار وعواقب جمة، ذلك القرار بمنح الجنسية المصرية لمن يستثمر 250 ألف دولار، بما يفتح المجال واسعاً أمام غسيل الأموال وغيرها، وكان الأجدر دراسة وافية لتداعيات مثل هذا القرار ونتائجه فى التطبيق والممارسة وبما يشجع عملية الاستثمار. ومما له صلة، لا يتوجب أن يمر قرار وزير المالية الحالى الخاص بإعفاء كافة الرسائل الجمركية الخاصة بالقوات المسلحة من الرسوم الجمركية!! ومع كل التقدير للدور الذى تقوم به القوات المسلحة، سواء سلماً أم حرباً، فمثل هذا القرار لا يتوجب أن يمر مرور الكرام. فقد كان الوضع قبل هذا القرار ينص على أن الإعفاء يكون فى حالة الرسائل الجمركية الخاصة بالقوات المسلحة لاغراض عسكرية، أما هذا القرار فسيكون الإعفاء فيه لأغراض عسكرية وغير عسكرية. وفى ضوء تزايد نشاط ودور المؤسسة العسكرية فى المجال المدنى، خاصة الهيئة الهندسية للقوات المسلحة، وجهاز الخدمة المدنية بذات المؤسسة، فإن مثل هذا القرار يطرح العديد من التساؤلات، سواء فى توقيته، أم فى مضمونه والغاية منه؟ وفى غياب أية مبررات موضوعية أو عملية لهذا القرار، وفى حدود معلوماتى، فإنه يمنح الإنتاج المدنى للمؤسسة العسكرية ميزة تنافسية غير مبررة عن سواها، سواء كانت مؤسسات مدنية أو أفراد، حيث أن هذا الإعفاء يخصم من التكلفة الكلية، ومن ثم ينعكس على أثمان المنتجات، سواء فى السوق المحلى أو التصدير، بالمقارنة بمثيلاتها، وحيث أن قواعد العدالة والمساواة تفرض تعميم الإعفاء على الجميع، الأمر الذى من شأنه حرمان الدولة من مورد هام وهو الرسوم الجمركية، وهو ما يتنافى مع الوضعية الصعبة للبلاد فى المرحلة الراهنة. وفى غياب عدم خضوع النشاط الاقتصادى المتزايد للمؤسسة العسكرية للجهات الرقابية المنوط بها مراقبة ومحاسبة أى نشاط اقتصادى، كما هو الحال للمدنيين، يفتح مثل هذا القرار، رويداً .. رويداً، المجال واسعاً أمام الإفساد والمفسدين، تحت مظلة القانون والقرارات، تحت مسميات مختلفة، وحتى لو كانت وهمية، مثل جمعيات تعاونية خاصة بضباط وأفراد القوات المسلحة، تقوم على سبيل المثال باستيراد سيارات ركوب لصالح هؤلاء، ولا احد يعرف قيمة الرسالة الجمركية، أو على من بالتحديد ستوزع؟، ويمكن مد الخط على استقامته ليشمل العديد من المجالات، التى لا تخضع للرقابة او المحاسبة. وفى التحليل الأخير، فإن عنوان "سمك.. لبن.. تمر هندى" يمكن أن يطلق على الكثير مما يزخر به المشهد السياسى المصرى الراهن، لا يتسع المجال هنا لحصره، وربما نعاود الحديث عنه لاحقاً بإذن الله، إذا كان فى العمر بقية.