تحل اليوم الذكرى السادسة على وفاة أديب نوبل «ألكسندر إيساييڤيتش سولچنتسين»، الذي حارب بشجاعة ضد القوات الألمانية التي هاجمت روسيا في 1941، لكن في العام 1945 حكم عليه بقضاء ثماني سنوات في معسكر اعتقال بعدما انتقد كفاءات ستالين الحربية في رسالة إلى أحد أصدقائه، وطبعته هذه التجربة إلى الأبد، فجعلته يسلك طريقاً استثنائياً، فبعد أن أفرج عنه في 1953 قبل بضعة أسابيع من وفاة ستالين نفي إلى آسيا الوسطى؛ حيث بدأ الكتابة، ثم عاد إلى الجزء الأوروبي من بلاده الشاسعة ليصبح مدرسا في ريازان على بعد مئتي كيلومتر من موسكو. كان سولجنتسين جندياً على الجبهة الألمانية عام 1945، حين كتب الى أحد أصدقائه منتقداً ستالين، معتبراً أن الحكومة السوفياتية مسؤولة أكثر من هتلر عن تبعات الحرب على الشعب السوفياتي، وقعت الرسالة في يد السلطات فكلّفه الأمر 8 سنوات في معسكرات الاعتقال، منها سيستمد مادة روايته الأولى «يوم في حياة إيڤان دينسوڤتش» التي لم تُنشر إلا عام 1962 في مجلة «نوڤي مير» السوفياتية، وذلك بعدما تدخّل الأمين العام للحزب شخصيّاً ، وكان يومها نيكيتا خروتشوف. هذه الرواية هي التي دفعته الى واجهة المشهد الأدبي العالمي ، لكنّها دشّنت أيضاً حقبةً جديدةً في مسيرة الروائي الإشكالي. فبعد ثلاث سنوات من صدورها منعت أعمال سولجنتسين في الإتحاد السوفياتي، وبدأت تجربته المريرة هذا في كل الأحوال ما تقوله الأسطورة التي أحاطت به كالهالة، وقد بلغت أوجها في زمن لم يكن «العالم الحرّ» يعبأ بالحريّة، قدر اهتمامه بتوظيف قضايا المنشقين في الحرب الباردة. في العام 1965 كتب «جناح السرطان» على شكل حدوتة فلسفيّة، مستوحياً تجربته الشخصية مع المرض في أواسط الخمسينيات، ولعلها أقرب رواياته إلى واقعية القرن التاسع عشر ، إذ تقدّم صورة أمينة للمجتمع الروسي بعد موت ستالين، لكن صيت «سولجنتسين» ذاع سياسياً أكثر منه أدبياً، لكثرة ما اكتنفت كتاباته انتقادات حادّة للسلطة، لكن خروشوف تباهى بدوره في بنشر «يوم في حياة إيڤان دينسوڤتش» التي تفضح معاناة المثقفين في سجون ستالين. وكان خروشوڤ يهدف يومذاك إلى مقارعة الحرس القديم من فلول القيادة الستالينية. تُرجمت تلك الرواية الأولى إلى العديد من اللغات، وشهرته في العالم أجمع، بينما كانت أعماله الأخرى مخطوطات حبيسة الأدراج. هذا الحظر قد يكون أسهم الى حدّ كبير في حصوله عام 1970 على جائزة نوبل للآداب عن روايته أرخبيل الگولاگ، وجعلته شيخ الكتّاب المنشقّين عن المنظومة الشيوعية، لم يسافر سولجنتسين إلى استوكهولم لتسلّم الجائزة، ربما خشيته من عدم السماح له بالعودة، وداهم ال «كي.جي.بي» منزله عام 1974 إثر تهريبه «أرخبيل الگولاگ» إلى فرنسا، في تلك الرواية يسرد معاناته في معسكرات الاعتقال الجماعي، واصفاً الآلة القمعيّة والطابع التوتاليتاري للنظام الستاليني، وكان سولجنتسين قد كتبها بين 1958 و 1967 على وريقات صغيرة دفنها واحدة تلو الأخرى في حدائق أصدقائه، فيما أرسل نسخة إلى الغرب ليهرّبها من الرقابة، ولم يقرّر نشرها إلا بعدما عُثر على إحدى مساعداته مشنوقةً: وكانت قد اعترفت لل «كي جي بي» بالمخبأ الذي فيه نموذج الرواية. في جميع الأحوال أرخبيل الگولاگ كلّفت سولجنتسين غالياً، إذ دفعت السلطات الى تجريد الروائي من جنسيته، وسوقه إلى المنفى في فبراير 1974 ليعيش فترةً في ألمانياوفرنسا، قبل أن يتوجّه الى الولاياتالمتحدة عام 1976، هناك عاش، في ولاية ڤرمونت، في ما يشبه العزلة، مكرّساً وقته لدراسة التاريخ الروسي بين 1914 و1917، وقد أحاط بتلك الحقبة بشكل واسع، ووضع في الخامسة والسبعين مؤلفاً ضخماً من عشرة أجزاء، بعنوان «العجلة الحمراء»، يرصد روسيا في زمن الثورة. قد تكون أكثر أعماله إثارةً للجدل، روايته قرنان معاً عام 2002 التي كرّسها لتاريخ اليهود في روسيا في غضون قرنين وعلاقاتهم مع الأمة الروسية، انقسم النقاد إلى معسكرين في اتخاذ موقف من الكتاب: غالبية القوميين الروس استقبلته بالترحاب، فيما رفضه أصحاب التوجّه الغربي ومن أصول يهودية واتّهموه بالعداء للسامية، سولجنتسين معاد للساميّة؟ خلال سنوات المنفى أبدى صاحب «أرخبيل الگولاگ» تعاطفاً مع الحركة الصهيونية، وتلقَّى دعوة إلى زيارة إسرائيل وجّهتها اليه يومها رئيسة الوزراء گولدا مئير. لكنّ هذا لم يمنع أيضاً «لجان الدفاع عن الحريات في لبنان» من دعوته الى بيروت أواسط السبعينيات بسبب مواقفه من النظام الشيوعي. في كل الأحوال، كثيراً ما كان سولجنتسين شخصيّة إشكالية أكان في مواقفه السياسية، أم في أعماله الأدبية التي تتفاوت النظرة النقدية إليها. هكذا، اعتبره بعض الكتّاب رجلاً مقاوماً وعنيداً يتمتّع بالحس القومي السلافي. فيما رأى بعضهم الآخر أنّ أعماله يشوبها الكثير من النقص. إذ قال عنه الكاتب الساخر فلاديمير فوينوفتش مرةً إنّه خرافة صاغها الخيال الجمعي، وإنّ إنجازه الوحيد هو «يوم في حياة إيڤان دينسوڤتش» فيما الروايات الأخرى تبعث على السأم. في أميركا ترأس سولجنتسين حملةً لتدخّل الولاياتالمتحدة في الفيتنام، ثم البرتغال عندما استولى اليسار عليها عام 1974، ودافع عن سباق التسلّح ضد الاتحاد السوفياتي خلال حقبة ريجان.لم يعد سولجنتسين إلى روسيا إلا عام 1994، أي بعد خمس سنوات على سقوط جدار برلين ، ليجدها مرتعاً للفساد والفقر. وأوضح سولجنتسين أنّه لدى عودته إلى روسيا، كان يعيش حالة من التأليه للعالم الغربي ولنظم الحكم في دوله المختلفة، «لم يكن (ذلك) مبنياً على معرفة حقيقية أو اختيار واعٍ، بل على رفض طبيعي لنظام البولشفيك ودعايته المعادية للغرب». ويشير الى أنّ «هذا المزاج تغير بعد هجوم حلف الأطلسي بالقنابل على الصرب. حتى ذلك الوقت، كان الغرب يمثّل لنا فارس الديموقراطية. في الحقيقة، أصبنا بخيبة أمل في يوغوسلافيا ، ذلك أنّ السياسة الغربية اعتمدت في الدرجة الأولى البراجماتية ما حصل هو نتيجة تفاهتنا». ويحاول سولجنتسين أن يفهم اليوم التحولات التي شهدتها روسيا: «الكثير من الروس عايشوا سقوط إيديولوجيتهم والغرب فرح بهذه النهاية للحرب الباردة المرهقة. وراقب سنوات حكم جورباتشوف ويلتسين ، وضعف السلطة في روسيا. لقد اعتادوا أن ينظروا إلى روسيا كواحدة من دول العالم الثالث». أما نظرة الكاتب إلى بلاده فتقوم على الحنين إلى عظمتها، وعلى التعصب القومي وتمجيد ثقافة الأرض والريف، ولعلّ من أهم إنجازاته الجائزة الثقافية التي استحدثها لدعم المبدعين القوميّين من أنصار الفكر السلافي والروسي، أو ممن سمّاهم «الأرضيين»، أولئك الذين يكتبون عن القرية، ومن بين من اختارهم «صندوق الكسندر سولجنتسين»، الأكاديمي فلاديمير توبوروف والأديب فالنتين راسبوتين والكاتب ليونيد بورودين وغيرهم. وتحدث الكسندر أوستروفسكي عن ضرورة تحطيم تلك الأسطورة التي حيكت عنه كداعية إنساني، وككاتب عظيم وعبقري. ورأى أن قوى إصلاحية في الاستخبارات الروسية استغلته لترويج أفكار المنشقّين الإصلاحية وإضعاف النظام الشيوعي. وأعرب العديد من الأشخاص في الأوساط التقدمية في روسيا عن خشيتهم من قناعات سولجنتسين الدينية المتزمّتة. على رغم كل ما قيل عنه، فإنّ ألكسندر سولجنتسين تمسّك في كل ما كتب بإيمانه العميق بروسيا، وبتفرّد ثقافتها، وتميّزها الروحي عن أميركا و أوروبا. كما اختلف سولجنتسين مع فلاديمير بوتين واتهمه بعدم فعل ما يكفي للقضاء على طبقة الأقلية الحاكمة، لكن أفكار الرجلين بدأت تدريجيا تلتقي, فقد رأى بوتين في سولجنتسين مرآة لانتقاداته الطويلة للغرب، وتأكيدا من أديب كبير لنظرة يحملها مفادها أن روسيا حضارة مختلفة لا تنطبق عليها معايير الديمقراطية الغربية, بما يقدم له ذلك من تبريرات في طريقة ممارسة الحكم. وصفه الرئيس الروسي الحالي ديمتري مدفيديف بأحد "أكبر مفكري القرن العشرين"، وقال عنه ميخائيل جورباتشوف إنه "لعب دورا محوريا في القضاء على نظام جوزيف ستالين الشمولي". توفي سولجنتسين بفشل في القلب بالقرب من موسكو في 3 اغسطس 2008 عن عمر 89عامًا.